توسع في المدارس الفنية المتخصصة.. وجامعة للنقل على الطريق
السبت، 20 سبتمبر 2025 09:30 م
"الضبعة للتكنولوجيا النووية" فتحت الباب لتأسيس مدارس متخصصة في تكنولوجيا الري والدواء والكهرباء
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلًا جوهريًا في نظرة الدولة المصرية إلى التعليم الفني والتكنولوجي. لم يعد هذا النوع من التعليم يُعتبر "مسارًا بديلاً" للطلاب غير القادرين على الالتحاق بالثانوي العام، بل أصبح ركيزة رئيسية ضمن استراتيجية بناء الإنسان المصري ورؤية "مصر 2030".
ومع إطلاق مدارس متخصصة في مجالات الكهرباء والدواء والري والطاقة النووية، إلى جانب مشروع جامعة النقل المصرية، بات واضحًا أن الدولة تستهدف خلق جيل جديد من الفنيين والمهندسين القادرين على تشغيل وإدارة البنية التحتية العملاقة، ودعم خطط التنمية الصناعية، وتحقيق الأمن القومي بمفهومه الشامل.
وتعكس التجربة المصرية في مدارس التكنولوجيا التطبيقية فلسفة جديدة في إدارة ملف التعليم الفني. هذه المدارس لا تقتصر على تدريس المناهج النظرية، بل تُدار من خلال شراكات مباشرة مع وزارات وهيئات وطنية كبرى، مثل الكهرباء والصناعة والموارد المائية، إلى جانب التعاون مع مؤسسات تعليمية وشركات دولية، ففي قطاع الكهرباء، دشنت وزارة التربية والتعليم مجموعة مدارس جديدة في الإسكندرية وأسيوط والإسماعيلية وحلوان والسيدة زينب، بالشراكة مع وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة وأكاديمية نوفا تكنولوجي الإيطالية. هذه المدارس لا توفر مقاعد دراسية فحسب، بل تقدم برامج تدريبية داخل محطات الكهرباء ومراكز التكنولوجيا الحديثة، ما يتيح للطلاب الجمع بين المعرفة الأكاديمية والخبرة العملية.
هذا النموذج يُرسخ ثقافة أن التعليم ليس مجرد شهادة، بل قدرة على ممارسة المهنة بكفاءة، وهو ما يتوافق مع المعايير الدولية ويجعل خريجي هذه المدارس مطلوبين في سوق العمل المحلي والإقليمي.
إحدى العلامات الفارقة في مسيرة التعليم الفني المصري هي مدرسة الضبعة للتكنولوجيا النووية، التي أُنشئت لتكون الذراع التعليمية لمشروع محطة الضبعة النووية. هذه المدرسة تمثل نقلة نوعية لأنها تقدم للطلاب مناهج متخصصة في علوم الطاقة النووية وتطبيقاتها العملية، وتتيح لهم التدريب الميداني في مرافق المشروع بالتعاون مع الخبراء الروس والمصريين.
الأهمية الاستراتيجية لهذه المدرسة أنها لا تخرج فنيين لسوق عمل تقليدي فقط، بل تُعد كوادر وطنية تمتلك المعرفة الفنية الدقيقة لإدارة وصيانة واحدة من أضخم المشروعات القومية في مصر. وبهذا، تصبح المدرسة جزءًا من منظومة الأمن القومي، حيث ترتبط مباشرة بقدرة مصر على تشغيل مشروعها النووي بكفاءات محلية، وتقليل الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
وفي ظل التحديات المتصاعدة المتعلقة بالموارد المائية، برزت فكرة إنشاء مدارس فنية متخصصة في تكنولوجيا الري. هذا المشروع – ثمرة تعاون بين وزارة التربية والتعليم ووزارة الموارد المائية والري – يستهدف إعداد جيل من الفنيين المتخصصين في مجالات شبكات الري الحديثة، معالجة وتحلية المياه، نظم الصرف، وتقنيات المساحة.
الأمر لا يتوقف عند التعليم النظري، بل يعتمد على التدريب العملي في مراكز الري المتخصصة، بما يتيح للطلاب التعامل مع أحدث التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد المائية، وصيانة وتشغيل "الطلمبات" والمعدات الثقيلة.
وتكمن أهمية هذه التجربة في ربط التعليم بمشكلة وطنية مصيرية هي قضية المياه. فبينما تعمل الدولة على تطوير البنية المائية ضمن مشروع "الري 2.0"، تأتي هذه المدارس لتوفر الكوادر البشرية المؤهلة لإدارة هذه المنظومة بكفاءة، بما يضمن استدامة الموارد المائية لمصر في المستقبل.
وشمل التوسع في التعليم الفني أيضًا قطاعًا حيويًا هو صناعة الدواء. فقد أعلنت الوزارة عن فتح باب القبول بمدارس تكنولوجية متخصصة في هذا المجال في مناطق برج العرب والعبور والقليوبية وحلوان، بحيث تكون قريبة من أكبر المصانع والشركات المنتجة للأدوية.
ما يميز هذه التجربة أنها تعتمد بنسبة 70% على التدريب العملي داخل المعامل والمصانع، مقابل 30% فقط للجانب النظري، وهو ما يخلق بيئة تعليمية تطبيقية حقيقية. كما أنها ثمرة تعاون مع الجانب الإيطالي، ثالث أكبر منتج للدواء عالميًا، ما يمنح الطلاب فرصة الحصول على شهادتين دوليتين معتمدتين بعد ثلاث وخمس سنوات من الدراسة، إلى جانب الشهادات المصرية الرسمية.
ولا تدعم هذه الخطوة فقط مكانة مصر كأكبر سوق دوائي في إفريقيا، بل تفتح آفاقًا أمام الخريجين للعمل في الأسواق العالمية، وتعزز من قدرة مصر على المنافسة في الصناعات الدوائية الحديثة.
بالتوازي مع المدارس، تعمل الدولة على إطلاق مشروع أكثر طموحًا هو جامعة النقل المصرية، التي يتم إنشاؤها بالشراكة بين وزارتي النقل والتعليم العالي والبحث العلمي.
وتضم الجامعة ثلاث كليات رئيسية: كلية الهندسة، كلية تكنولوجيا النقل، وكلية اقتصاديات النقل، على أن تغطي تخصصات تشمل تشغيل السكك الحديدية والمترو والموانئ البحرية والمطارات، بالإضافة إلى صناعة وسائل النقل الحديثة.
ولا تقتصر أهمية هذا المشروع على سد فجوة في سوق العمل، بل يسعى إلى وضع مصر على خريطة التعليم الدولي كدولة رائدة في قطاع النقل. فقد بدأت الوزارة بالفعل في عقد شراكات مع جامعات عالمية مثل جامعة النقل الوطنية بكوريا وجامعة كوريا البحرية والمحيطات، لنقل الخبرات الدولية وتطبيقها محليًا.
ويعكس هذا التوجه أن التعليم الفني في مصر لم يعد مقتصرًا على المدارس الثانوية، بل أصبح مسارًا أكاديميًا متكاملًا يمتد إلى مستوى الجامعة، بما يفتح المجال أمام البحوث العلمية وتطوير تقنيات محلية في مجال النقل.
ويتضح من خلال هذه الخطوات، أن مصر تبني استراتيجية متكاملة تجعل من التعليم الفني والتكنولوجي قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فبينما كان التركيز سابقًا على التعليم الأكاديمي التقليدي، تدرك الدولة اليوم أن الصناعات الثقيلة، وإدارة الموارد الطبيعية، والمشروعات القومية العملاقة تحتاج إلى كوادر فنية متخصصة أكثر من حاجتها إلى خريجي الجامعات النظرية.
وبذلك، يصبح التعليم الفني ليس مجرد بديل، بل مسارًا رئيسيًا يعادل – وربما يتفوق – على التعليم الجامعي في قدرته على خدمة خطط التنمية ودفع عجلة الاقتصاد الوطني.
واليوم، مع مدارس الكهرباء والدواء والري والضبعة، ومع اقتراب إطلاق جامعة النقل المصرية، يمكن القول إن مصر تضع أسس منظومة تعليمية جديدة تعطي الأولوية للتخصص والمهارة العملية. هذه المنظومة لا تخرج فقط شهادات، بل تخلق كوادر بشرية مؤهلة قادرة على المنافسة إقليميًا ودوليًا، وتلبية احتياجات الداخل المصري من العمالة الماهرة.
إنه استثمار طويل الأمد في رأس المال البشري، يضع التعليم الفني في صدارة المشهد كأحد أهم أعمدة رؤية مصر 2030، ويعيد رسم صورة التعليم في مصر ليصبح تعليمًا يواكب العصر، ويؤسس لمصر جديدة قادرة على المنافسة في مجالات الطاقة، المياه، النقل، والصناعة.