ثنائيات فى حياة عبدالناصر من الولادة للرحيل.. اليُتم والغربة والصداقة والتجرّد وأخيرا الاستقطاب بين واشنطن وموسكو
الإثنين، 29 سبتمبر 2025 01:03 م
لعبت الثنائيات دورا حاسمًا فى حياة الزعيم جمال عبد الناصر، فقد كانت أقداره مسيرة باستمرار على طريقة الأساطير الإغريقية، وأبطال تراجيدياتها الكبرى، مفتوحة دومًا على خيارين يطلان على مأساتين.. بداية من ثنائية الغربة واليتم اللذين صاحباه فى سنوات صباه المبكرة.. وصولًا إلى خيار الولاء للصداقة أم الحكم الراشد.
ثنائية الولادة.. يمكن القول إن عبد الناصر وُلد مرتين: الأولى بيولوجيًا فى 15 يناير 1918.. والثانية شعبيًا عندما اتخذ قرار تأميم قناة السويس وقاوم على أثره عدوانًا ثلاثيًا خرج منه سالمًا ومدعومًا بتأييد واسع ومطلق من الشعوب العربية وشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بوصفه –آنذاك- رمزًا للتحرر من التبعية الاستعمارية والاستقلال الوطنى.
ثنائية الغربة واليتم.. بالعودة إلى سنوات الطفولة البعيدة فى حياة عبد الناصر نجد أن هناك ثنائية أيضًا هما الغربة واليتم قد لعبتا دورًا كبيرًا فى تشكيل شخصية عبدالناصر التى كانت ميالة بطبيعة الحال إلى التأمل وقلة الكلام.
يقول جيلبرت سينوى فى كتابه «البكباشى والملك – الطفل.. مذكرات من مصر» إن والد عبد الناصر ساعى البريد كان يحاول أن يعد صغيره ليكون له مكانًا فى المجتمع المصرى؛ لذلك فعندما أتم ناصر السبعة أعوام لم يجد أمامه خيارًا سوى أن يعهده إلى أخيه الذى يسكن فى القاهرة ليتم ناصر عنده تعليمه. وفى القاهرة عرف عبدالناصر للمرة الأولى قسوة فراق الأحباء خصوصًا الأم فهيمة التى كانت تجمعه بها علاقة شديدة الخصوصية.. إذ يقول سينوى عنها: «كان يشعر أنها تفهمه أكثر من أى شخص آخر، وأنها تشعر بخبايا روحه الشابة المعذبة، وكانت كل رسالة تصله منها تبعث فى نفسه شحنة من السعادة تعينه على تحمل الحياة».
غير أنه بحلول عام 1926 انقطعت رسائلها.. فقد ماتت فهيمة وهو بعيد عنها.. ليذوق تجربة اليتم التى كانت لها الأثر الأبعد فى تكوين شخصيته.
ويصف السادات ذلك الأثر على شخصية جمال عبد الناصر فى كتابه«صفحات مجهولة» قائلاً: «كنا جميعًا فى نفس الفوج وكان يصنع كل ما نصنع، لكنه مع ذلك أيضًا يفكر، ولا نكاد ننطلق فى المرح.. حتى نجد موضوعًا هادئًا يثيره بيننا جمال عبدالناصر.
ثنائية الصداقة والتجرد.. المراقب لفترة حكم عبد الناصر يعرف أن عام 1961 كان بداية الشقاق الحقيقى بين عبدالناصر وصديقه الأقرب عبدالحكيم عامر.. فقد كانت ثنائية الحكم الراشد وتطهير السلطة من مراكز القوى هى شغل ناصر الشاغل بعد هزيمة 67 المروعة.. والتى كان أحد أبرز أسبابها طبيعة الصراع المستتر بين ناصر وعبدالحكيم ما أفضى إليه من نتائج كارثية.
فى كتابه «وثائق 15 مايو» يكشف الكاتب الصحفى موسى صبرى بداية تاريخ الصدام بين ناصر وعبدالحكيم إذ يقول: وصل الصراع الذى كان مستترًا إلى قمته عام 1961 عقب الانفصال مباشرة.
ويضيف: «أن الظروف التى عاد فيها المشير عبدالحكيم عامر من سوريا بعد الانفصال، والمعاملة غير الكريمة التى لقيها كنائب رئيس الجمهورية، وكمشير، وكقائد عام.. أحاطت المشير بأجواء من المرارة الذاتية».
ويتابع: «وشعر عبدالحكيم.. بل واقتنع بأن كل ملابسات الانفصال قد نالت منه.. وإنه لا يجب أن يستمر قائدًا عامًا للقوات المسلحة.. وفتح قلبه للرئيس جمال عبدالناصر.. وصارحه بحقيقة ما ينويه.. وأقر الرئيس عبدالناصر وجهة نظره، على أن يبقى فى العمل السياسى مع قيادة الثورة.. لكن المشير كان قد عدل عن قراره فى اللحظة الأخيرة».. بل الأكثر من ذلك طلب صلاحيات جديدة تجعله أكثر نفوذًا فى صناعة القرار.. وكانت لتلك القرارات أسوأ الآثار على البلاد وقدرة القوات المسلحة الأمر الذى قاد البلاد نحو نفق مظلم قاد إلى هزيمة 67 وما تلاها من أحداث يعرفها الجميع.
ثنائية أمريكا وروسيا.. ربما لا يعلم الكثيرون أن الاتحاد السوفيتى كان ينظر إلى الرئيس جمال عبدالناصر فى بداية حكمه بعين الشك ويحسبه دومًا على الأمريكان.. فى الوقت الذى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحسب ناصر على المعسكر الشيوعى.
فى كتابه «مع عبدالناصر والسادات» يروى السفير مراد غالب – سفير مصر فى الاتحاد السوفيتى خلال فترة الستينيات – عن تفاصيل أول لقاء جمع الرئيس ناصر بالاتحاد السوفيتى وكان عاصفًا إذ يقول: «جاءت زيارة الرئيس عبدالناصر للاتحاد السوفيتى فى أواخر أبريل عام 58 بعد الوحدة بين مصر وسوريا وكنت وقتها مديرًا لمكتب الرئيس للشؤون السياسية وكانت زيارة لها أهميتها الكبيرة. ولم أحضر المباحثات مع خروشوف وعندما خرج عبدالناصر من الجلسة بعد انتهائها وجدته فى غاية الاستياء والعصبية وأخذ يردد قوله: «إنى لا بد أن أغادر الاتحاد السوفيتى فورًا أنا لا أقبل ما قيل فى هذه الجلسة فقد تكلم فيها خروشوف وقال إن سياسة ركوب الحصان الأمريكى مرة والحصان السوفيتى مرة أخرى ليست فى مصلحة الشعب ولا فى مصلحتك، بل هذه ليست سياسة».