فيضان السودان والصراع المائي: أزمة بين الأنهار والخيال الجيوسياسي

الأربعاء، 01 أكتوبر 2025 10:07 م
فيضان السودان والصراع المائي: أزمة بين الأنهار والخيال الجيوسياسي
أمل غريب

في خضم موسم الأمطار، شهد السودان ارتفاعا ملحوظا في منسوب المياه على فروع النيل "الأزرق والأبيض" في عدة ولايات، بما في ذلك الخرطوم وسنار، وفيضانات واسعة غير مسبوقة، فيما تلوح تداعيات هذه الكارثة المائية على دولتي المصب السودان ومصر، في سياق توتر متصاعد نتيجة مشروع سد النهضة على النيل الأزرق، الذي شيدته إثيوبيا، ودخل حيز التشغيل الرسمي خلال شهر سبتمبر الجاري، مما يستدعي طرح عدة أسئلة حول مدى ارتباط الفيضانات الحالية بإدارة سد النهضة، وما إذا كانت هناك أدوار خفية لأطراف إقليمية، وكيف تواجه مصر الأزمة من الناحية السياسية واللوجيستية؟
 
فمنذ انطلاق مشروع سد النهضة الإثيوبي عام 2011، تصاعدت التوترات بين إثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى، حول حقوق مياه النيل وكيفية تشغيل السدّ، خاصة في سنوات الجفاف أو الفيضانات، كون أديس أبابا ترى أن المشروع حق سيادي لتطوير مواردها المائية لإنتاج الطاقة، وتخفيف أزمات الكهرباء الداخلية، بل تصفه بأنه مشروع تنموي محوري.
 
في المقابل، تعتمد مصر، على النيل نحو 90 ٪ من مواردها المائية، ما شكل تهديدا وجوديًا لأمنها المائي، خاصة مع إصرار إثيوبيا، على إدارة السد بشكل أحادي ودون اتفاق قانوني ملزم بين الأطراف على إطلاق المياه في فترات الجفاف أو السيطرة على الفيضانات، ولا آلية ملء السدّ وتشغيله في السنوات العادية والاستثنائية، مما أدى إلى وقوع الأزمات مع الإعلان عن افتتاح السد بشكل رسمي، فقد أطلقت السلطات السودانية تحذيرات من الفيضان بلغت حد العلامة الحمراء، بسبب تصريف كميات زائدة من مياه سد النهضة.
 
وبدورها، نفت إثيوبيا، تسببها في إغراق السودان، وأشارت إلى أن السد ساعد في التخفيف من حدة الفيضانات، بينما اعترفت بأنها لم تُصدر بعض التصريفات تدريجيا، بسبب تعطل بعض التوربينات، مما عرقل قدرة التصريف بشكل آمن على دول المصب، فالفيضانات الأخيرة، التي اجتاحت ولايات السودان، لم تكن مجرد مصادفة طبيعية، بل جاءت عقب قرارات إثيوبية منفردة بزيادة تصريف المياه من بحيرة السد، دون إخطار مسبق لجيرانها، فكانت النتيجة آلاف المنازل المدمرة، ومزارع غارقة، وبنية تحتية مشلولة، مما أودى بحياة المواطنين السودانيين، خصوصا في المناطق السهلية القريبة من مجرى النيل، وغرق المساكن وإجلاء السكان، ودمار الأراضي الزراعية القريبة من ضفاف الأنهار، مما ضر بالأمن الغذائي في السودان، وامتدت التأثيرات إلى هلاك صادرات المحاصيل الرئيسة، وانهيارات الجسور وأضرار الطرق، وتلوّث المياه وانتشار الأمراض الوبائية، مثل الكوليرا.
 
ومصر، كونها دولة مصب ومستهلك رئيسي لمياه النيل، لا يمكنها أن تكون بمنأى عن هذه الأزمة، ولا يمكن أن نفك الارتباط بين خطوات إثيوبيا وأي دعم خارجي يستهدف النيل من مصر، فلمصر أعداء يبحثون دائمًا عن أوراق ضغط على مصر، ويرون في سد النهضة فرصة ذهبية لتطويق الدور المصري في إفريقيا، وإشغال القاهرة بأزمات داخلية وخارجية مستمرة.
 
ولم تكن مصر غافلة عن هذا السيناريو، فقد وضعت الدولة خطة متكاملة لمواجهة أي تهديد مائي، وحرصت منذ سنوات على تحسين شبكة الري وترشيد استخدام المياه، وعززت دفاعاتها المائية بمشروعات قومية كبرى في التحلية وإعادة الاستخدام، وتعظيم كفاءة توزيع المياه المتاحة، وكذلك توسيع وتطوير محطات تحلية المياه في بعض المناطق لتخفيف الضغط على مياه النيل، فضلا عن تعزيز شبكات الأمان لسكان المناطق التي قد تتأثر بأي نقص في المياه، وتوفير بدائل أو دعم تقني، وتطوير البنية المائية عبر مشروعات تبطين الترع، بالإضافة إلى الرصد التقني عبر استخدام الأقمار الصناعية وشبكات المراقبة لرصد أي تغييرات في تصريفات السد والتصرف الفوري.
 
إثيوبيا التي تتعنت في إدارة سد النهضة، واستخدامه كسلاح ضد مصر والسودان، لكن القاهرة، التي أدركت حجم التهديد منذ البداية، وضعت نفسها في موقع الاستعداد المبكر، ومع كل فجر جديد، يزداد وعي الرأي العام بأن معركة النيل ليست خيارًا بل قضية وجود، وأن مصر، لن تسمح أبدًا بأن تتحول مياهها إلى أداة ابتزاز سياسي، فلم يعد خافيا على أحد أن إثيوبيا لا تتحرك بمفردها في ملف سد النهضة، ما نراه اليوم من تصرفات أحادية وقرارات متهورة بإطلاق كميات هائلة من المياه دون تنسيق مع دول المصب، ليس سوى تنفيذ حرفي لمخططات تستهدف أولاً وأخيرًا مصر، قلب الأمة العربية.
 
الحقيقة التي تؤكدها القيادة السياسية مراراً وتكراراً، أن من يتوهم أن القاهرة، ستقف مكتوفة الأيدي بينما تُستخدم مياه النيل كسلاح ضدها، هو "واهم"، التاريخ يشهد أن مصر، حين تُمس سيادتها تتحول إلى قوة لا تقهر، ومن يراهن على إضعافها بالمياه أو غيرها، إنما يكتب سطرا جديدا في سجل أوهام لن تُحقق أبدا.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق