سندس الكحلوت تروى لـ«صوت الأمة» إبادة عائلتها: «أطفال رحلوا قبل العَشاء لكنهم أبقوا الجوع فينا»
الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025 11:10 ص
قالت سندس الكحلوت: «كلنا يقين بالله أننا سنُعمر غزة، وراضون بما قدّمناه من تضحيات... كله فداءٌ لفلسطين.. الأطفال رحلوا قبل العَشاء، لكنهم أبقوا فينا الجوع حيًّا إلى الأبد... كانوا صغارًا لا يدركون معنى الموت أو الحرب».
ما إن بدأت الحرب في غزة تضع أوزارها حتى اندلعت حرب أخرى من نوعٍ مختلف؛ حرب بناء الإنسان الفلسطيني وترميم روحه المثقلة، وحرب إعادة إعمار بلدات لم يبقَ منها سوى رماد الذكريات وضجيج الألم وصيحات الصغار الحاملة لأملٍ في مستقبلٍ سيأتي لا محالة على أرضٍ محررة، طالما هناك شعبٌ حر مستعدٌ للتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل تحرير وطنه من دنس الاحتلال.
انتهت الحرب، لكن المعاناة النفسية والمادية بدأت؛ فالعائدون إلى ديارهم يصطدمون ببقايا منازلهم وبعظام أحبّتهم التي أنهكها الزمن، بينما لم يمنحهم الاحتلال فرصة لالتقاط الأنفاس أو البحث عن المفقودين من ذويهم، إذ ظل الموت يلاحقهم أينما ولّوا وجوههم.
وروت سندس الكحلوت لـ"صوت الأمة" مأساة الإبادة الجماعية التي استهدفت عائلتها كما استهدفت غيرها من العائلات الفلسطينية، قائلة: «هُدمت منازلنا عن بكرة أبيها، ولم يبقَ بيت واحد يجمع من تبقّى من العائلة. كان آخر بيت تم تدميره هو منزلي الذي كان يضمّنا جميعًا.. لو أردتُ أن أحدثكم عن أهوال الحرب، لاحتجت إلى كتابٍ كامل لأصف ما عشنا وكابدنا، فالكلمات تضيق عن احتواء الجراح التي لا تُرى بالعين، لكنها تسكن القلب والذاكرة.
كان “طوفان الأقصى” طوفانًا للتغيير، ورغم أن كل المعطيات تدعو إلى اليأس، فإنني متفائلة إلى أبعد الحدود، لأننا واثقون بوعد الله».
وأضافت الكحلوت شاكرةً مصر على دعمها: «المصريون كانوا أكثر من ساندونا، ولو كان بيدهم أكثر مما قدّموا لما تأخروا لحظة. ورغم الألم والجراح، لا نقول إلا ما يرضي الله: الحمد لله في السراء والضراء، في المنع والعطاء، والحمد لله أن حُقنت الدماء من جديد».
وأوضحت أن «ما ينقله الإعلام عن غزة لا يُمثّل سوى نقطة في بحر معاناتنا، فالوضع سيئ للغاية ويفوق الوصف. كنا نعيش ليالي أشبه بيوم القيامة، يوم يفرّ المرء من أخيه. من شدّة القصف والأحزمة النارية التي كانت تطوقنا، كان البعض ينسى أبناءه من هول الخوف، فقط لينجو بنفسه».
وتابعت: «رغم أن كثيرًا من العائلات عادت إلى منازلها، فإننا ما زلنا عالقين، فلم يبقَ لنا بيت نعود إليه. دُمّرت منازلنا ومنازل إخوتي وعائلة زوجي، ولم نجد مكانًا يؤوينا، كحال كثير من الغزيين.
ورغم الدمار الهائل، لن يمنعنا شيء من العودة ولو بنينا خيامًا فوق أنقاض بيوتنا. لكن الوضع صعبٌ جدًا، مليء بالعراقيل، والخدمات في المناطق التي كنا نعيش فيها أصبحت معدومة: لا ماء ولا كهرباء ولا أسواق، فحتى الأسواق والمساجد والمعالم التاريخية كالمسجد العمري والجندي المجهول دمّرها الاحتلال».
ثم تحدثت الكحلوت عن واحدة من أبشع الليالي، حين أُبيد سبعة عشر طفلًا من عائلتها، قائلة: «كانت شقيقتي يسرى (أم لخمسة أطفال) تنتظر أذان العشاء لتطعم أبناءها الذين صاموا الجوع، فوعدتهم أن يتناولوا طعامهم بعد الصلاة ليناموا على شبع.. لكن الطائرات الصهيونية باغتتهم قبل الأذان، فحوّلت البيت إلى رماد، وأحرقت أحلامهم الصغيرة. رحلوا قبل العشاء... لكنهم أبقوا الجوع فينا حيًّا إلى الأبد».
وأضافت: «أطفالي وأطفال إخوتي استُشهدوا جميعًا. أكبرهم كان عمره سبعة عشر عامًا، وكثير منهم حديثو الولادة. تناثرت أشلاؤهم فلم نعرف معالمهم، حتى أننا وضعنا كل طفلين في كيس واحد. كانوا يلعبون بجوار أمهاتهم حين قصف الاحتلال البيت وقتلهم جميعًا».
وتابعت وهي تغالب دموعها: «كانت ريم الصغيرة تحدث والدتها عن أحلامها بعد الحرب، وعن غرفتها الجديدة التي أعدّها لها والدها قبل القصف، وكانت تشتاق لرؤيته، لكن صاروخًا واحدًا أسكت صوتها إلى الأبد. صاحت "رأسي... رأسي" ثم فارقت الحياة».
واستذكرت الكحلوت بقية شهداء العائلة: «استشهدت عمّتي الدكتورة جيهان الكحلوت مع ابنتها هلا وزوج ابنتها وحفيدتها مريم، كما استشهد من عائلة زوجي أخوه أبو أنس شكري عياش. واستشهد أكثر من عشرين ألف طفل في غزة بلا ذنب، لا يعرفون معنى الحرب ولا الموت».
واختتمت حديثها قائلة: «نحن صابرون، مؤمنون أن الله لن يضيع دماء شهدائنا. ونعلم أن مصر قدّمت ما بوسعها، ولو كان بيدها أكثر لما تأخرت».
