انهيار هيكل الإرهابية في أوروبا.. القارة العجوز تتخلى عن التواطؤ الصامت وتلاحق كيانات إخوانية مالية ودعوية لتمويل جماعات متطرفة

السبت، 25 أكتوبر 2025 11:00 م
انهيار هيكل الإرهابية في أوروبا.. القارة العجوز تتخلى عن التواطؤ الصامت وتلاحق كيانات إخوانية مالية ودعوية لتمويل جماعات متطرفة
محمد الشرقاوي

المؤسسات الأمنية تكشف عن "شبكات وجهاز ظل" تستخدم واجهات دينية وتعليمية لإعادة إنتاج خطاب الكراهية

إيرلندا تحذر من السماح للإخوان بـ:الازدهار دون رادع".. وألمانيا تصنفها كخصم استراتيجي صامت ينخر في المؤسسات والمناهج والخطاب العام

المخابرات الألمانية والفرنسية تحدد أسماء لشبكات مالية إخوانية ضخمة تستثمر في العقارات والتعليم وتتحرك عبر واجهات دينية

 

مع اقتراب فصل الشتاء، تستعد دول القارة الأوروبية لاتخاذ مواقف أكثر حذرًا من جماعة الإخوان الإرهابية، بتجميد نشاطاتها، وتعقب مصادرها، والذي يبدو أنه سيكون شتاءً أكثر برودة على حواضن الإخوان في السنوات الأخيرة.

وبعد سنوات من التواطؤ الصامت، يبدو أن القارة الأوروبية بدأت أخيرًا تخلع قفازات "التسامح الليبرالي" في تعاملها مع جماعة الإخوان، فالصورة التي رسمتها الإرهابية لنفسها كتيار إصلاحي مدني، لم تصمد أمام سيل التقارير الأمنية والاستخباراتية التي كشفت حجم تغلغلها داخل المجتمعات الأوروبية، عبر مؤسسات مالية ودعوية تعمل كأذرع لتمويل أجندة أيديولوجية متشددة.

واليوم، لم يعد النقاش في برلين أو باريس أو فيينا يدور حول "حرية التنظيم"، بل حول "مستوى التهديد"، فالتجربة الأوروبية مع الإخوان تحولت من اختبار فكري إلى معركة أمن قومي، بعدما تبين أن الجماعة تستغل الديمقراطية لتقويضها من الداخل، والمفارقة أن التحول لم يأتِ بضغط من الشارع أو الإعلام فقط، بل من صميم أجهزة الدولة التي أدركت متأخرة أن التغلغل الإخواني يجري بهدوء، لكنه يترك ندوبًا عميقة في بنية الهوية الأوروبية.

ولا يعني تغيّر المزاج الأوروبي مراجعة سياسية فقط، بل اعترافًا بفشل وهم "الإسلام السياسي المعتدل"، فالمؤسسات الأمنية في ألمانيا وفرنسا وأيرلندا خصوصًا باتت تتحدث بوضوح عن "شبكات ظل" تنسق عبر واجهات دينية وتعليمية، وتعيد إنتاج خطاب الكراهية والانقسام بوسائل ناعمة يصعب رصدها.

من هنا، تبدو أوروبا مقبلة على إعادة رسم قواعد تعاملها مع الإخوان، من سياسة الاحتواء إلى سياسة التجفيف، ومن الحوار إلى الرصد والملاحقة، وهي لحظة فاصلة تُنهي مرحلة الغموض، وتعلن بوضوح أن زمن "التسامح الساذج" مع الجماعة قد انتهى.

 

أوروبا تُراجع ذاتها

لم يعد المشهد الأوروبي يحتمل التبريرات القديمة، فالقارة التي فتحت ذراعيها لجماعة الإخوان باعتبارها "جسرًا للتفاهم الثقافي" اكتشفت، بعد عقود من التغاضي، أنها كانت ترعى "حصان طروادة" أيديولوجيًا يتسلّل بهدوء لتقويض قيمها من الداخل. اليوم، لم تعد المسألة تدور حول دمج الجاليات أو التعددية الدينية، بل حول حماية الدولة الأوروبية من مشروعٍ منظّم يتقن التنكر في ثياب الدعوة والتسامح.

طوال سنوات، روجت النخب الليبرالية في أوروبا لفكرة أن الجماعة تمثل "الإسلام المعتدل" القادر على تحييد نزعات التطرف، وأن احتضانها أفضل من تركها للظلامية؛ لكن الواقع أظهر أن التنظيم استثمر في هذا الاحتضان ليبني شبكة مصالح وولاءات خارج منظومة الدولة، فالمساجد والمراكز الثقافية والجمعيات الخيرية التي سُمح لها بالعمل بدعوى "خدمة المسلمين"، تحولت تدريجيًا إلى منصات تعبئة سياسية تتحدث باسم "الأمة" لا باسم المواطن، وتغذّي عزلة ثقافية خطيرة داخل المجتمعات الأوروبية.

التحول الأهم حدث داخل الوعي السياسي ذاته، لم يعد صانع القرار الأوروبي ينظر إلى الجماعة كتيارٍ ديني تقليدي، بل كـكيان أيديولوجي عابر للحدود يعمل على تفكيك مفهوم الدولة الحديثة من الداخل، هذا الإدراك الجديد لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة تقارير استخباراتية متراكمة رصدت نمطًا واحدًا في عشرات المدن الأوروبية: تسلل ناعم، تمويل غامض، وشبكات ولاء تتجاوز الأطر القانونية.

ولذلك تغيّر خطاب الحكومات. فرنسا لم تعد تتحدث عن "احتواء" أو "حوار"، بل عن "مواجهة"، فألمانيا لم تعد ترى في الإخوان جزءً من الحل، بل أصلًا من المشكلة، بينما النمسا، فقد تجاوزت مرحلة الشك إلى التعامل مع الجماعة كتهديد مباشر للأمن القومي، من خلال تفكيك الجمعيات المموّلة وفرض رقابة صارمة على أنشطتها.

وراء هذه المراجعة يقف إدراك أعمق بأن الجماعة لم تكن يومًا حركة دعوية، بل مشروع سياسي موازٍ للدولة الوطنية، يستخدم أدوات المجتمع المدني كواجهة لتوسيع نفوذه، ولا تكمن خطورة الجماعة الإرهابية في السياق الأوروبي في خطابهم الديني فقط، بل في قدرتها على إنتاج "التطرف الهادئ" ذلك النمط من الانعزال الفكري الذي يُعيد تعريف الانتماء الوطني على أسس عقائدية، ويفتح الطريق أمام التطرف العنيف لاحقًا.

في فرنسا تحديدًا، شكّل اغتيال المدرّس صامويل باتي في أكتوبر 2020 لحظة وعي حادّة، دفعت الدولة لإعادة تعريف علاقتها بالدين، فالقانون الذي عُرف باسم "مكافحة الانعزالية" لم يكن رد فعل غاضبًا، بل استراتيجية شاملة لإغلاق منافذ التسلل الإخواني، عبر إعادة ضبط التمويلات، ومراقبة الخطاب الديني، وفرض مبدأ "ولاء الجمهورية أولًا"، إنها ليست حربًا على الإسلام، كما تدّعي الجماعة، بل على الإسلاموية التي اتخذت من الحرية ستارًا للتجنيد الأيديولوجي.

أما في ألمانيا، فقد سقطت ورقة التوت، ووصفت الاستخبارات الداخلية الجماعة في تقريرها الأخير بأنها تسعى "لتغيير النظام الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل"، وهو توصيف لم يُستخدم حتى ضد بعض الجماعات السلفية، ومعنى ذلك أن أوروبا بدأت ترى الإخوان لا كحركة متطرفة فحسب، بل كخصم استراتيجي صامت يستغل ضعف البنية الليبرالية لتفكيكها من الداخل.

ولعل أخطر ما يواجه أوروبا اليوم هو أن هذا التنظيم استطاع أن يُلبس نفسه قناع "الممثل الشرعي للمسلمين"، وهو ما يضع الحكومات أمام معضلة مزدوجة: كيف تواجه جماعة تحتمي بحرية التعبير وتستغل الديمقراطية لتقويضها؟ لذلك، بدأت المقاربة الأوروبية تتجه نحو فصل الدين عن السياسة داخل الجاليات نفسها، عبر إنشاء أطر تمثيلية جديدة تُدار تحت رقابة الدولة لا الجماعة.

كل ذلك يُشير إلى أن ما يجري ليس حملة عابرة بل تحوّل استراتيجي طويل المدى، وأوروبا - بعد أن جربت الإنكار والتسامح والمراهنة - قررت أن ترفع الغطاء، فالإخوان لم يعودوا يُرون كقوة اجتماعية بل كـ«جهاز ظل» يهدد العقد المدني ذاته، ولهذا فإن المواجهة المقبلة ستكون فكرية بقدر ما هي أمنية، لأن الخطر الحقيقي لم يكن في عنف السلاح بل في عنف الفكرة الذي ينخر في المؤسسات والمناهج والخطاب العام.

وبهذه الصيغة، يمكن القول إن أوروبا بدأت أخيرًا تصحح خطأ تاريخيًا ارتكبته حين ساوت بين التعددية والتساهل، وحين منحت الحركات الإسلاموية شرعية الوجود تحت لافتة "التمثيل الثقافي"، اليوم، تُغلق العواصم واحدة تلو الأخرى تلك النوافذ المفتوحة، بعدما أدركت أن التهاون مع مشروع الإخوان لم يكن تعبيرًا عن التسامح، بل استثمارًا في الفوضى المؤجلة.

 

تحقيقات وتحركات برلمانية لتعقب أذرع الإرهابية

لم تعد المواجهة الأوروبية مع الإخوان مجرّد معركة فكرية، بل تحوّلت إلى ملف تحقيقات مفتوح داخل البرلمانات يكشف حجم التغلغل الذي بلغته الجماعة في مؤسسات التعليم والمجتمع المدني والتمويل الخيري، فمن باريس إلى برلين، تتعامل الدول الأوروبية الآن مع الإخوان بوصفهم "كيان ظل" يستغل البنية القانونية والحرية الدينية لبناء شبكة نفوذ موازية.

بدأت فرنسا تحقيقاتها في عام 2021، عبر لجنة برلمانية لتتبع نشاط الجمعيات المرتبطة بالإخوان الإرهابية، وانتهت إلى وصف الجماعة بأنها "تُمارس التقية السياسية بمهارة" وتعيد تدوير خطابها حسب المزاج المحلي، وصولاً إلى منتصف أكتوبر 2025 برزت البرلمانية الفرنسية وعضو البرلمان الأوروبي مارين ماريشال، رئيسة حركة الهوية والحريات، كأحد أبرز الأصوات الداعية إلى وقف هذا التمدد، محذّرة من خطر اختراق الإسلام السياسي للمجتمعات الأوروبية.

وأكدت ماريشال، إصرارها على مواصلة محاربة نفوذ جماعة الإخوان الإرهابية، في الوقت الذي طلب فيه النيابة العامة بمدينة فالانس إصدار قرار بعدم الملاحقة القضائية بحقها، بعد شكوى تقدمت بها المنظمة بتهمة التشهير، منددة بما وصفته بـ"إصرار" جماعة الإخوان المسلمين على ملاحقتها قضائيًا، في إطار القضية التي تجمعها بتنظيم الاخوان في فرنسا، بحسب صحيفة "لوجورنال دو ديمانش" الفرنسية.

وأعلن المدعي العام في فالانس أن النيابة لا تطلب فرض أي عقوبة على النائبة الأوروبية، معتبرًا أن تصريحاتها تأتي في إطار «النقاش الديمقراطي»، وقالت: «منذ أن جعلت من محاربة جماعتكم وأيديولوجيتكم أحد أولوياتي السياسية، أطلقتم ضدي إرهاباً قضائيًا حقيقيًا»

وترجع القضية إلى تصريحات أدلت بها لقناة «سي نيوز» في 2 أكتوبر 2023، حين قالت إن رئيس بلدية فالانس حاول بيع قطعة أرض لجمعية تابعة للإخوان المسلمين، في إشارة إلى مدرسة إسلامية تشرف عليها جمعية «القيم والنجاح»، وردت المنظمة حينها برفع دعوى قضائية ضدها بتهمة التشهير.

ولم تحضر النائبة الفرنسية جلسات المحكمة، لكنها تحدثت من البرلمان الأوروبي في بروكسل، مؤكدة استمرارها فيما تسميه «محاربة الحركة الإخوانية»، وقالت: "في بروكسل، أكشف وجوهكم الأخرى، ومن بينها منظمة  (FEMYSO)، التي أعتبرها واجهة خفية للتأثير تحت غطاء منظمة شبابية".

وتتهم ماريشال الجماعة الإرهابية بـ«التسلل الصامت إلى المؤسسات الأوروبية»، مستغلة - ما وصفته - سذاجة أو تساهل بعض المسؤولين في المفوضية والبرلمان الأوروبي، مشيرة إلى  قرار وزارة الداخلية الفرنسية في يونيو 2024 بحل "المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية (IESH) "، الذي وُصف بأنه أقدم مركز لتدريب الأئمة في فرنسا، بسبب «ارتباطه بجماعة الإخوان.

وفي ألمانيا، لم تعد الاستخبارات الداخلية تكتفي بالمراقبة، بل أعلنت أن جمعيات محسوبة على الإخوان "تُستخدم كأغطية تمويلية لتنظيمات دعوية ذات طابع سياسي"، أما في بلجيكا، فقد فجّرت التحقيقات البرلمانية ملفات تمويل من إحدى الدول العربية واتصالات غير شرعية بين مسؤولين أوروبيين ومراكز تابعة للتنظيم الدولي.

ولم يكن هذا الانكشاف تفصيلاً عابرًا، بل لحظة فاصلة في تفكيك شبكة العلاقات الرمادية التي نسجتها الجماعة مع نخب سياسية وإعلامية داخل البرلمان الأوروبي، ومع تصاعد الأصوات المطالبة بإعادة تعريف مفهوم "الشراكة مع الإسلام السياسي"، بدأت أوروبا تدرك أنها تُساق ببطء إلى فخ أيديولوجي مغلف بخطاب ديني مائع.

لكن المفاجأة جاءت هذه المرة من أيرلندا-  الدولة التي ظلت لعقود خارج دائرة المواجهة - ففي منتصف أكتوبر 2025، فجّرت السيناتورة شيرون كيغان جدلاً واسعًا في مجلس الشيوخ الأيرلندي حين حذّرت من السماح لجماعة الإخوان بـ“الازدهار دون رادع” داخل البلاد، مطالبة بفتح تحقيق رسمي في نفوذ الجماعة وتأثيرها.

وقالت كيغان إن الحكومة فشلت في “الاعتراف بتأثير الجماعة في أيرلندا، ناهيك عن التعامل معه”، مشيرة إلى أن ما يجري ليس مسألة دينية بل “قضية شفافية وحكم وتأثير أيديولوجي لحركة محظورة في دول عديدة، آخرها الأردن بعد اتهامها بمحاولة تخريب”.

تصريحات كيغان جاءت على خلفية إغلاق أكبر مسجد في أيرلندا، الواقع في كلونسكيغ – دبلن، منذ أبريل الماضي بسبب مخاوف من روابط متشددة ومخالفات مالية، في وقت كشفت فيه صحيفة أيريش تايمز عن استقالة أحد مسؤولي المركز بسبب مزاعم بارتباطه بالإخوان، وهو تطور وضع الحكومة الأيرلندية أمام اختبار جديد في التعامل مع "الإسلاموية المؤسسية"، خصوصًا أن كيغان حذّرت من أن "أيرلندا تواجه خطر السماح لشبكة أيديولوجية بالازدهار دون رقابة، في وقت تتجه فيه بقية أوروبا نحو التقييد والمساءلة".

وتمثل هذه الواقعة الأيرلندية تحولًا رمزيًا في المشهد الأوروبي، فالمسألة لم تعد محصورة في العواصم الكبرى، بل امتدت إلى الدول الصغيرة التي كانت تُعد ملاذًا آمنًا للجماعة، فما حدث في دبلن يكشف اتساع دائرة الشك الأوروبي، ويدحض سردية الإخوان التي طالما ادعت أن القارة تنظر إليهم كجزء من "النسيج الديني المشروع"، والحقيقة أن أوروبا باتت تنظر إليهم كجسم أيديولوجي موازٍ يسعى لتشكيل جاليات مغلقة ثقافيًا ومؤهلة سياسيًا للابتزاز والضغط.

وفي بريطانيا، التي مثّلت تاريخيًا القاعدة الخلفية للتنظيم الدولي، تحولت لهجة التقارير البرلمانية من التحفظ إلى الإدانة، مع توصيات واضحة بإعادة النظر في «الإطار القانوني الذي يسمح للجماعة بالعمل كمنظمة خيرية مسجلة».

أما في النمسا والدنمارك والسويد، فقد اتخذت الحكومات إجراءات متقدمة لمراقبة الجمعيات الإسلامية الممولة خارجيًا، ووضعتها تحت المراجعة الدورية، بعد أن أثبتت التحقيقات وجود تنسيق بين بعضها وبين شبكات تابعة للإخوان في ألمانيا وبروكسل.

وبالتالي يمكن القول إن ما يجري الآن هو تفكيك ممنهج للغطاء السياسي والتمويلي الذي بنته الجماعة داخل القارة، فلم تعد أوروبا تتحدث عن "حرية المعتقد"، بل عن "اختراق مؤسساتي" يهدد الأمن الفكري والاجتماعي، وهو ما تتحدث عنه تقارير الاستخبارات الهولندية والبريطانية صراحة، يما يطلق عليه "استراتيجية التغلغل الناعم" التي تعتمدها الجماعة عبر المدارس والمراكز الثقافية والمبادرات المجتمعية، بهدف إعادة تشكيل الوعي الجمعي للجاليات المسلمة تحت مظلة الإسلام السياسي.

 

هل يسقط هيكل الإخوان في أوروبا؟

في ظل ما تشهده القارة الأوروبية في الأشهر الأخيرة من تحولات ضد جماعة الإخوان الإرهابية، حيث خر تحولًا بنيويًا في مقاربة ملف جماعة الإخوان، بعدما انتقل التعقب من دوائر المراقبة الأمنية التقليدية إلى ساحات البرلمانات والتحقيقات الحكومية، لتصبح ملفًا مركزيًا على طاولة صناع القرار، صار السؤال: هل يسقط هيكل الإخوان في القارة التي عُرفت لعقود بأنها الملاذ الأكثر أمانًا للجماعة الإرهابية؟، وهو ما سنحاول الإجابة عليه، فيما يلي:

بدأ الوجود الإخواني في أوروبا منذ ستينيات القرن الماضي، حين أسس سعيد رمضان – صهر حسن البنا – أول مركز إسلامي في ميونيخ، تحوّل لاحقًا إلى نواة لنشاط التنظيم في القارة، ومن هناك انطلقت عملية بناء شبكة متكاملة شملت مدارس وجمعيات ومراكز ثقافية، قبل أن تتبلور لاحقًا في إطار مؤسسي عُرف باسم "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" الذي أصبح لاحقًا "مجلس مسلمي أوروبا"، ومقره في بروكسل.

ويضم المجلس اليوم نحو 26 منظمة فرعية تمثل أذرع الجماعة داخل دول الاتحاد الأوروبي، وتعمل كغطاء قانوني لأنشطة التمويل والتعبئة الفكرية، وهذه الشبكة لم تكن مجرد كيانات خيرية، بل منظومة متعددة المستويات تعمل بخيوط علنية وسرية؛ بعضُها يقدم خدمات للمجتمعات المسلمة، وبعضها الآخر يُستخدم كواجهة لتدوير الأموال وتمويل وسائل إعلام التنظيم أو ممارسة الضغط السياسي عبر عناوين حقوقية.

وعلى مدى أربعة عقود، تعاملت الحكومات الأوروبية مع هذا التمدد الإخواني بقدر كبير من التسامح، استنادًا إلى مبادئ "حرية المعتقد" و"التعددية الثقافية"، لكن تلك المقاربة أفرزت نقيضها: جماعة ذات أذرع مالية وإعلامية وتعليمية متغلغلة داخل الجاليات المسلمة، استطاعت أن تقدم نفسها كصوت "الاعتدال"، بينما كانت في الواقع تعيد هندسة هوية موازية داخل المجتمعات الأوروبية.

وبحسب تقارير استخبارات ألمانية وفرنسية، تمتلك الجماعة اليوم شبكات مالية ضخمة تستثمر في العقارات والتعليم، وتتحرك عبر واجهات مثل: "التجمع الإسلامي في ألمانيا" و"المجلس الإسلامي البريطاني" و"اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا".

لم تكن أوروبا مجرد ساحة نشاط، بل العصب المالي للتنظيم الدولي، ففي النمسا، بنى القيادي يوسف ندا إمبراطورية مالية تدير أموال الجماعة عبر شركات وصناديق تمويل تنتشر في أكثر من دولة، وفي فرنسا، سيطر "اتحاد المنظمات الإسلامية" على نحو 147 مسجدًا و18 مدرسة قبل أن تبدأ الحكومة، خلال العامين الماضيين، حملة مراجعة شاملة للتراخيص والمناهج والتمويلات، أما بريطانيا، فتمثل البيئة الأكثر مرونة لأنشطة الجماعة، حيث تستفيد من القوانين الليبرالية لتأسيس منظمات ضغط مثل “الرابطة الإسلامية في بريطانيا” التي تعمل كأداة تأثير داخل البرلمان والإعلام.

ومع اشتداد الرقابة في الغرب الأوروبي، أعادت الجماعة توزيع حضورها نحو الشرق، خصوصًا في البوسنة ودول البلطيق، لبناء ملاذات بديلة بعيدة عن التدقيق المالي والقانوني، يرى الأكاديمي الفرنسي فرانك فارنيل، في تصريحات له أن هذا التحرك "هروب تكتيكي أكثر منه توسعًا استراتيجيًا"، موضحاً أن الجماعة "تعمل اليوم من خلال هيكل لا مركزي يديره المجلس الأوروبي للمسلمين في بروكسل، ويتضمن منظمات مثل المجلس الأوروبي للفتوى والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية وصندوق أوروبا".

وهذا النموذج الشبكي مكّن الجماعة من العمل ضمن الأطر القانونية دون أن تُصنَّف تنظيمًا سياسيًا، لكنه جعلها أيضًا عرضة للاختراق والتفكك، ومع تصاعد التحقيقات في فرنسا وألمانيا، أصبحت البنية الإخوانية تحت المجهر: تمويلات مشبوهة، مدارس مغلقة، وقيادات اختفت من المشهد العام.

ورغم أن عضوية الجماعة في فرنسا تضاعفت من 50 ألفًا عام 2019 إلى نحو 100 ألف في 2024، فإن هذا الرقم يعكس تضخمًا عدديًا بلا تماسك تنظيمي، فبحسب فارنيل، فقدت الجماعة مركزيتها القديمة، إذ لم يعد التنظيم القائم على معادلة "علنية الدعوة وسرية البنية" قادرًا على ضبط تشعباته، خاصة بعد تشديد القيود المالية وعمليات التتبع القانوني.

القطاع الأوروبي، الذي كان يُعدّ الأكثر تماسكًا داخل التنظيم الدولي، يعيش الآن مرحلة تآكل بنيوي، فبعد وفاة إبراهيم منير وصعود محمود الإبياري، حاولت القيادة الجديدة إعادة ترتيب الصفوف من لندن، لكن الشبكة تفككت إلى مراكز متنافسة في بروكسل وفرانكفورت وباريس، حيث تشير تقديرات إلى تراجع التمويلات بنسبة تتجاوز 60% خلال ثلاث سنوات، في ظل تقلص الدعم القادم من قطر وتركيا إلى مستويات لم تعد كافية لتغطية الأنشطة الميدانية.

الأهم أن الجماعة فقدت قدرتها على الاختباء خلف واجهاتها القانونية، فقد كشفت التحقيقات البرلمانية في فرنسا وألمانيا وإيرلندا عن نمط واحد متكرر: جمعيات ترفع شعار "الاندماج" لكنها تمارس العزل المجتمعي، ومؤسسات تعليمية ودعوية تحولت إلى أدوات تعبئة سياسية، وهذا التحول في الإدراك الأوروبي أفقد الجماعة أهم أدواتها: القدرة على التمويه باسم الحوار الديني.

الإجابة الأقرب أن الهيكل لا يسقط دفعة واحدة، بل عبر تفكيك بطيء ومتدرج يشبه انهيار الكتلة الشيوعية بعد سقوط جدار برلين، الانهيار الإخواني يتحقق اليوم في كل تقرير برلماني، وكل قرار بإغلاق مركز أو تجميد حساب، ومع تراجع التمويل وتفكك القيادة وتنامي الرقابة القانونية، تفقد الجماعة أهم ما امتلكته في الغرب: القدرة على الاختراق والاختباء في آن واحد.

الأهم أن المزاج العام الأوروبي تغيّر، فالأحزاب اليسارية والخضراء التي كانت تمنح الجماعة غطاء "الحوار والمواطنة" باتت اليوم في موقع الدفاع، بعدما تبيّن أن الجمعيات التي دعمتها تحولت إلى قنوات تمويل غير شرعي، وحتى داخل البرلمان الأوروبي، تراجعت نغمة "المظلومية الإسلامية"، لتحل محلها نغمة "المسؤولية الأمنية والفكرية".

كذلك الهيكل الذي وُلد في ميونيخ قبل ستة عقود وتحصّن طويلًا في بروكسل ولندن، يواجه الآن أخطر اختبار في تاريخه، فقد تحولت أوروبا من الحاضن إلى المحاصر، ومن الشريك المتسامح إلى القاضي العلني، وإذا كانت الجماعة قد نجت لعقود بفضل التسامح الأوروبي، فإن اللحظة الراهنة تؤذن ببداية مرحلة جديدة عنوانها: انكشاف الهيكل وتهاوي المشروع من قلب أوروبا.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق