العنف في السودان.. عندما تخلى الجميع عن توصيات مصر

الأربعاء، 29 أكتوبر 2025 10:21 ص
العنف في السودان.. عندما تخلى الجميع عن توصيات مصر
طلال رسلان يكتب:

لم تكن التحذيرات المصرية من خطورة تفاقم الصراع في السودان يومًا تعبيرًا عن قلقٍ عابر، بل كانت قراءةً مبكرة لمستقبلٍ يتشكل على حافة الانفجار. واليوم، بعد عامين من اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يثبت الواقع أن ما كانت القاهرة تُنبه إليه قد حدث بالفعل: دولة تتآكل مؤسساتها، مدنٌ تتحول إلى ساحات حرب، ومجازر تتوالى في مشهد دموي يعيد طرح سؤال المسؤولية، لا عن القتال فقط، بل عن تجاهل كل الفرص التي كانت كفيلة بإنقاذ السودان من هذا المصير.
 
منذ اللحظة الأولى لانفجار الأزمة، اتخذت مصر موقفًا ثابتًا وعلنيًا، فكانت تدعو إلى حلّ سياسي شامل يضمن وحدة السودان أرضًا وجيشًا ومؤسسات، مؤكدة أن الحرب لن تفرز منتصرًا بل ستخلق أجيالًا من الضحايا واللاجئين. في بيانات وزارة الخارجية المصرية المتكررة، كان صوت التحذير واضحًا: “لن يحسم الصراع في السودان بالسلاح، بل بالحوار بين السودانيين أنفسهم”، وهي رسالة لم تكن موجهة للخرطوم فقط، بل للعواصم الإقليمية والدولية التي تعاملت مع الأزمة وكأنها صراع نفوذ يمكن توظيفه لصالح توازنات أخرى.
 
على مدار العامين الماضيين، بذلت القاهرة جهدًا دبلوماسيًا غير مسبوق لإعادة السودان إلى مسار الدولة الواحدة، فاستضافت لقاءات ومؤتمرات للتيارات المدنية، وأطلقت مبادرات مشتركة مع الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، بل عرضت رؤى تفصيلية لوقف إطلاق النار وتهيئة المناخ لحوار شامل. لكنها كانت دائمًا تصطدم بواقعٍ دولي وإقليمي منقسم، وبقوى داخلية سودانية ترى في الصراع وسيلة لتحقيق مكاسب سريعة على حساب وحدة الوطن.
 
اليوم، وقد تجاوز عدد النازحين السودانيين حاجز الاثني عشر مليونًا، وسقط آلاف المدنيين في دارفور والخرطوم ومدن أخرى، يبدو أن التحذيرات المصرية كانت بمثابة خريطة إنذار لم يُلتفت إليها في وقتها. القاهرة كانت تدرك أن ترك السلاح يقرر مصير السودان سيحوّله إلى ساحة مفتوحة للفوضى، وأن انهيار الدولة هناك لن يتوقف عند حدودها الجنوبية، بل سيمتد أثره إلى مصر نفسها، وإلى منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل. فاستقرار السودان بالنسبة لمصر ليس ترفًا سياسيًا، بل مسألة أمن قومي تمس عمقها الاستراتيجي وأمنها المائي وحدودها الجنوبية.
 
في الوقت الذي كانت فيه بعض القوى الإقليمية تراهن على انتصار طرف على آخر، كانت مصر ترى الصورة كاملة. كانت تعلم أن لا جيشًا يمكنه حكم السودان بمفرده، ولا مليشيا يمكنها أن تبني دولة، وأن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى تفكيك النسيج الاجتماعي وإضعاف مؤسسات الدولة حتى الانهيار. هذه الرؤية لم تكن نظرية، بل نابعة من خبرة تاريخية عاشتها مصر والمنطقة مع حروب أهلية سابقة انتهت جميعها إلى نفس النتيجة: لا أحد يربح من الفوضى.
 
لكن تجاهل التوصيات المصرية لم يكن مجرد خطأ في التقدير، بل كان إصرارًا على تكرار تجارب فاشلة. حين اقترحت القاهرة قبل عامين إطلاق حوار سوداني – سوداني شامل برعاية إفريقية، كانت الرسالة واضحة: لا بد من توحيد الجيش تحت سلطة الدولة، ودمج القوات الموازية في المؤسسات النظامية، وتهيئة بيئة سياسية تضمن تمثيلًا حقيقيًا لكل الأطراف. إلا أن تلك المقترحات ظلت حبرًا على ورق، وسط تسابق أطراف خارجية على التأثير في المشهد، وتحول الأزمة من شأن وطني إلى ساحة صراع بالوكالة.
 
ومع كل تصاعد جديد للعنف، كانت القاهرة تجد نفسها في موقع من يدفع الثمن. فمئات الآلاف من اللاجئين تدفقوا إلى الأراضي المصرية، والمخاوف من انتشار التهريب والسلاح عبر الحدود الجنوبية تزايدت، فضلًا عن التبعات الاقتصادية والأمنية التي يفرضها وجود حرب مفتوحة في دولة تمثل عمقًا استراتيجيًا لمصر. وفي الوقت ذاته، ظلت القاهرة متمسكة بثوابتها: وحدة السودان خط أحمر، وحل الأزمة يجب أن يمر عبر المؤسسات لا عبر البنادق.
 
الآن، والعالم يشهد تصاعد المجازر في إقليم دارفور وانهيار الخدمات في العاصمة الخرطوم، يعود الموقف المصري ليكتسب بعدًا آخر: فليست القاهرة اليوم في موقع المراقب الذي يحذر، بل في موقع من يقدّم درسًا في الرؤية الاستباقية. لقد قالت مصر منذ البداية إن تجاهل الحل السياسي سيقود إلى الكارثة، وها هو المشهد يثبت ذلك. تحولت الخلافات السياسية إلى اقتتال، والاقتتال إلى مجازر، والمجازر إلى أزمة إنسانية تهز الضمير العالمي، بينما لا يزال الحل في مكانه الأول: حوار سوداني شامل تحت مظلة الدولة الواحدة.
 
في ختام المشهد، لا بد من الاعتراف بأن الموقف المصري لم يكن مجرد دفاع عن مبدأ، بل عن استقرار إقليمي كامل. فمصر لا تبحث عن نفوذ في السودان، بل عن استقرار يضمن أمن وادي النيل من منبعه إلى مصبه. وما يحدث اليوم من دماء ودمار هو نتيجة مباشرة لتجاهل خريطة السلام التي رسمتها القاهرة في وقتٍ مبكر.
 
لقد كانت مصر تحذر من العاصفة، وها هي العاصفة تضرب الجميع. والدرس الذي يُعاد اكتشافه كل مرة هو أن تجاهل صوت العقل لا يُنقذ أحدًا، وأن السلام الذي رفضوه بالأمس صار اليوم الطريق الوحيد الممكن لإنقاذ ما تبقى من السودان.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق