أصل حكاية المتحف المصري الكبير.. أيقونة السياحة الثقافية بدأ بحلم في التسعينيات وتحول إلى صرح يعيد صياغة علاقة المصريين بتاريخهم
السبت، 01 نوفمبر 2025 10:00 ص
المتحف يعيد تشكيل المشهد السياحي ويصبح منصة اقتصادية وثقافية وسياحية متكاملة.. واستثمارًا في الهوية الوطنية
مدينة ثقافية متكاملة.. صالات عرض ومركز ترميم وقاعات تعليم وحدائق عامة في مساحة نصف مليون متر مربع
اليوم وبعد انتظار لسنوات، تشهد مصر والعالم الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، أكبر صرح حضاري وثقافي في القرن الحادي والعشرين، بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعدد من قادة وزعماء العالم، والشخصيات الدولية البارزة في مجالات الثقافة والآثار والسياحة.
الحفل الذى سيشهد استخدام أحدث تقنيات الإضاءة والعروض البصرية، التي تمتزج فيها أنوار الأهرامات مع الواجهة الحجرية العملاقة للمتحف، في مشهد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويعبّر عن عظمة الحضارة المصرية الممتدة لآلاف السنين، ومن المقرر أن يقام عرضًا فنيًا ضخماً بمشاركة فرقة موسيقية مصرية عالمية مكونة من 120 عازفًا مصريًا، إلى جانب عازفين وكورال من 79 دولة، وفرق استعراضية عالمية تقدم عروضًا مستوحاة من روح الحضارة المصرية القديمة، مع تخصيص جزء من الحفل لعرض فيلم قصير يوثق مراحل بناء المتحف منذ وضع حجر الأساس وحتى افتتاحه.
وبهذا الافتتاح، تكون مصر قد دشنت رسميًا صرحًا حضاريًا فريدًا يمثل نقطة التقاء بين الماضي والمستقبل، ويعيد التأكيد على دورها التاريخي كحارس للهوية الإنسانية وموطن للحضارة التي ألهمت العالم.
تنسيق حكومي دقيق لضمان حفل يليق بمكانة مصر
وقبل أيام من الافتتاح الرسمي، كان قصر الاتحادية يشهد اجتماعات مكثفة لوضع اللمسات النهائية للاحتفال العالمي بافتتاح المتحف المصري الكبير، فقد اجتمع السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي مع الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، وشريف فتحي، وزير السياحة والآثار، ومحمد السعدي، عضو مجلس إدارة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية والمشرف العام على حفل الافتتاح، لمتابعة الموقف التنفيذي الكامل للاستعدادات، وتأكيد جاهزية جميع العناصر التنظيمية والفنية واللوجستية.
وقال السفير محمد الشناوي، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، أن الرئيس تابع خلال الاجتماع الاستعدادات الجارية لتنظيم الاحتفالية الكبرى، واستعرض وزير السياحة والآثار الإجراءات والتحضيرات التي تتم بالتنسيق بين مختلف الوزارات والجهات المعنية، بما يشمل الجوانب الفنية واللوجستية والفقرات المقترحة للفعاليات، إلى جانب الترتيبات التنظيمية المرتبطة بها.
وفي خلال الاجتماع شدد الرئيس على أهمية استمرار التعاون والتنسيق بين جميع الجهات المعنية لضمان تنظيم حفل افتتاح يليق بمكانة مصر التاريخية والحضارية، ويعكس ريادتها في مجال المتاحف والثقافة العالمية، ويسهم في تعزيز الترويج السياحي للبلاد، كما أكد الرئيس السيسي ضرورة أن تعكس صورة الاحتفالية ليس فقط عظمة هذا الصرح العالمي، بل أيضاً حجم الإنجاز والتطور الذي تشهده الدولة المصرية في مختلف المجالات، بما يتناسب مع مكانتها الحضارية أمام العالم، وهو ما تحقق على أرض الواقع باحتفالية ضخمة أبهرت العالم.
ووجّه الرئيس السيسي بتكثيف الجهود الإعلامية والدبلوماسية لتسليط الضوء على هذا الحدث الفريد، وإبراز ما يمثله من رسالة سلام وتواصل حضاري بين مصر والعالم، مؤكدًا أن هذا المشروع لم يكن مجرد بناء لمتحف، بل تأسيس لجسر جديد بين الماضي العريق والمستقبل الطموح.
ووجه الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، رسالة للعالم، موضحا أنه مع بُزوغ شمس يوم السبت الأول من نوفمبر 2025، فتحت مصر العظيمة ذراعيها لتستقبل زوارها من قادة وزعماء العالم وكوكبة من كبار الضيوف، من بوابة المتحف المصري الكبير.
وأضاف: «هذا الصرحُ الحضاري والثقافي المُتكامل، ذو الإطلالة الفريدة على أهرامات الجيزة، هدية مصر للعالم، الذي اختير له أن يرى النور هذا اليوم، في افتتاحٍ سيكون حدثاً خالداً جديداً، يُحفر بنقوش غائرة على مسلة أمجاد التاريخ المصري العريق»، موضحا «لن يكون المتحف المصري الكبير مُجرد مقصدٍ ومزارٍ أثري يُنافس نظائره في العالم أجمع، بما ينطوي عليه من كَمٍ فريد من كنوز الحضارة المصرية القديمة، في بهوه العظيم، ودرجه المُتفرد، وقاعات عرضه المتحفي الحديثة، بل بُنيانٌ يروي قصة إرادة الدولة المصرية، حيث يحل بعد عامين من افتتاحه؛ اليوبيل الفضي لذكرى وضع حجر أساسه، ليكون بحق انتصاراً جديداً يُضاف لسجل الجمهورية الجديدة في تذليل العقبات واستكمال الآمال وصُنع الإنجازات».
الجيزة تتزين خلال الافتتاح
وتتضمن الأعمال رفع كفاءة وتخطيط شوارع المنصورية، والنيل، ومراد، والبحر الأعظم، ضمن خطة متكاملة تهدف إلى تحسين المشهد الحضاري، وأوضح المهندس عادل النجار محافظ الجيزة، أن أعمال التطوير ورفع الكفاءة جاءت نظرًا لما تمثله هذه المحاور من مسارات رئيسية لحركة الوفود الرسمية والسياحية والمترددين على المنطقة خلال أيام الافتتاح، بما يضمن ظهورها بالمستوى الحضاري اللائق الذي يعكس الصورة المشرفة لمحافظة الجيزة أمام زوارها من مختلف دول العالم.
وأكد "النجار"، أن المحافظة حريصة على إبراز الوجه الجمالي للمناطق المحيطة بالمتحف المصري الكبير والطرق المؤدية بما يليق بمكانة المتحف كأكبر صرح ثقافي وسياحي في العالم.
وشملت أعمال التطوير التي ظهرت في أبهى صورة، المنطقة الممتدة من ميدان الرماية مرورًا بطريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي وحتى مطار سفنكس، وكذلك طريق الفيوم، بالإضافة إلى الطريق الدائري ومحوري المريوطية والمنصورية.
وتضمنت أعمال التطوير رصفًا وتوسعة وتطويرًا شاملًا للطرق والمحاور المرورية، وزراعة آلاف الأشجار والنخيل، وتركيب أنظمة إنارة متطورة، وطلاء واجهات العقارات المحيطة، وتنفيذ مجسمات فنية لشخصيات تاريخية وفنية وثقافية ودينية مؤثرة.
وراعت محافظة الجيزة والجهات المعنية الخصوصية الأثرية للمنطقة، إذ نُفذ مخطط التطوير وفق رؤية بصرية موحدة، كما تضمن رفع كفاءة البنية التحتية وتحسين السيولة المرورية بالمحاور المؤدية إلى المتحف، بما يحقق الانسيابية المطلوبة لحركة المواطنين والأفواج السياحية.
وخصصت المحافظة شاشات عرض كبرى بالميادين والشوارع الرئيسية بمختلف أنحاء المحافظة، لمشاركة المواطنين الاحتفال بالحدث الضخم، ولإتاحة الفرصة أمام المواطنين لمتابعة الفعاليات في أجواء احتفالية بمختلف أرجاء الجيزة.
رحلة إنشاء المتحف المصري الكبير.. من الحلم إلى الصرح العالمي
ومع الحدث العالمي، اتجهت أنظار العالم أجمع إلى مصر التي دشنت صرحًا معماريًا يعيد رسم ملامح الحضارة المصرية العظيمة بروح المعاصرة، إذ يحتضن المتحف المصري الكبير، أهم وأندر الكنوز على وجه الأرض، ليحكي للعالم قصة مصر داخل تحفة معمارية تجمع بين الإبداع الهندسي وعظمة التاريخ، ويرتكز تصميمه على فكرة التدرج من العالم الحديث إلى عالم الفراعنة، ليعبر بالزائر في رحلة عبر التاريخ المصري العريق، في تجربة معمارية تفاعلية تبرز تميز وأصالة الهوية المصرية وعظمتها.
وتعود فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير إلى ما قبل الألفية الجديدة، إذ بدأت المداولات الأولى حول المشروع في تسعينيات القرن الماضي، إلى أن ارتقت الفكرة إلى حيز التنفيذ بإعلان الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الثقافة والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة عام 2002، عن مسابقة دولية لتصميم مجمع متحفي جديد يحتضن أعظم الكنوز الأثرية التي حظيت بها مصر والعالم، ويجمع بين الهوية المصرية والحداثة المعمارية، ليكون بوابة حضارية بين القاهرة الحديثة وأهرامات الجيزة.
ونُظمت المسابقة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للمعماريين، ما جعلها واحدة من أكبر المسابقات المعمارية الدولية في التاريخ، حيث شارك فيها أكثر من 1550 فريقًا من 82 دولة، خضعوا لتقييم لجنة تحكيم دولية ضمت خبراء بارزين في العمارة والمتاحف والتاريخ المصري القديم، وتمثل هذه المسابقة نموذجًا يحتذى به في الشفافية والتنافسية في المشروعات الثقافية الكبرى، حتى أصبحت تُدرّس اليوم في كليات العمارة حول العالم، باعتبارها تجربة فريدة تمزج بين الهوية والمكان والاستدامة والتجربة المتحفية الحديثة.
وفي عام 2003، وُضع حجر الأساس الرمزي للمشروع، قبل أن يفوز في مسابقة التصميم المعماري مكتب "هينيغان بينغ" Heneghan Peng Architects الأيرلندي، الذي قاد فريقًا مكوّنًا من 300 متخصص يمثلون 13 شركة من 6 دول مختلفة.
وفي عام 2005، بدأ تشييد المتحف فعليًا بتصميم هندسي فريد يطل على أهرامات الجيزة، ويجسّد أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة – على بُعد كيلومترين فقط – لتلتقي عند واجهة المتحف في مشهد بصري مهيب.
ويقع المتحف على مساحة 500 ألف متر مربع، وقد رُوعي في اختياره الموقع الجغرافي الفريد على حافة الهضبة الصحراوية، ليمثل نقطة توازن بين الصحراء والنيل في رؤية معمارية واحدة تجمع الجغرافيا بالرمزية التاريخية، فالموقع الذي يرتفع بنحو 50 مترًا فوق سطح البحر هو نتاج طبيعي لتاريخ جيولوجي طويل لنحت نهر النيل لطريقه نحو البحر المتوسط، ما أتاح للمصممين دمج تضاريس الهضبة والوديان في قلب التجربة المعمارية.
ومن أبرز العلامات الفنية التي تميز التصميم المعماري للمتحف الربط البصري المباشر مع الأهرامات من خلال محاور هندسية دقيقة، إذ يتضمن التركيب المعماري هيكلًا ثلاثي الأبعاد تحدده مجموعة من المحاور الممتدة من موقع المتحف نحو الأهرامات الثلاثة، لتُكوّن إطارًا بصريًا متناغمًا بين الماضي والحاضر.
كما استغل التصميم الفارق الطبيعي في الارتفاع بين وادي النيل والهضبة لإنشاء حافة جديدة للهضبة دون أن يرتفع المتحف فوقها، محافظًا على الانسجام البصري مع الأفق التاريخي للأهرامات.
وتُزين الواجهة الحجرية الشفافة الضخمة المتحف، متغيرة الملامح بين النهار والليل في تفاعل بصري مذهل مع الضوء الطبيعي.
أما عن التصميم الداخلي، فقد رُوعي فيه الوضوح والسلاسة ليأخذ الزائر في رحلة تدريجية عبر التاريخ.
أكبر متحف ومجمع أثري في العالم
يتألف المتحف من خمسة محاور رئيسية تمتد باتجاه الأهرامات، بينما يشكل المحور السادس "الدرج العظيم"، وهو مسار زمني يمثل صعود الحضارة المصرية من ساحة المدخل إلى قاعات العرض الدائم.
ويتدرج الزائر عبر طبقات معمارية تبدأ بالمعارض المؤقتة ثم المتحف الدائم، وصولًا إلى إطلالة بانورامية مهيبة على أهرامات الجيزة من أعلى نقطة في الدرج العظيم.
وتنظم قاعات العرض في طابق واحد لتتيح للزائر استيعاب حجم وعظمة الحضارة المصرية بسهولة، بينما تحدد الطيات السقفية والجدران الهيكلية الضخمة الإيقاع المكاني للمتحف.
ويتيح التصميم مرونة كبيرة في طرق العرض والتحكم في الإضاءة الطبيعية عبر الطيات الهندسية للسقف، ما يمنح كل قطعة أثرية حضورها المميز داخل المشهد العام.
ويُعد المتحف المصري الكبير أكبر متحف ومجمع أثري مخصص لحضارة واحدة في العالم، إذ يضم نحو 100 ألف قطعة أثرية تغطي حقبًا تمتد من عصور ما قبل التاريخ حتى العصرين اليوناني والروماني.
كما يحتوي على 24 ألف متر مربع من قاعات العرض الدائم، ومتحف للأطفال، ومركزًا للترميم يُعد الأكبر في الشرق الأوسط، إلى جانب قاعات للمؤتمرات والتعليم، وحدائق واسعة داخل وخارج المخطط العام للمتحف.
ويُعرض داخله مجموعة الملك توت عنخ آمون كاملة لأول مرة في مكان واحد، بالإضافة إلى مركب الشمس الذي كان معروضًا بجانب الأهرامات.
هذا الصرح، الذي يجمع بين العمارة والفن والتاريخ، لم يكن مجرد مشروع لبناء متحف، بل رؤية وطنية لبناء ذاكرة جديدة للأمة المصرية في قلب الجيزة، ليصبح بوابة تفاعلية بين الماضي العريق والمستقبل الواعد.
قوة ناعمة تعيد رسم خريطة السياحة
لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد حدث ثقافي أو أثري، بل حدث استراتيجي يعيد تشكيل المشهد السياحي والثقافي في مصر، ويمنحها أداة جديدة من أدوات قوتها الناعمة على الساحة الدولية، فمنذ الإعلان عن افتتاحه، تحولت الأنظار من الشرق إلى الغرب نحو الجيزة، لتتجه بعثات إعلامية عالمية وشركات إنتاج وثائقية وسياحية إلى تغطية هذا الحدث، باعتباره أكبر مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين.
وتؤكد وزارة السياحة والآثار أن المتحف المصري الكبير سيصبح أيقونة السياحة الثقافية في الشرق الأوسط، وبوابة رئيسية لاستقبال ملايين الزائرين سنويًا، خاصة مع موقعه المميز على بعد دقائق من أهرامات الجيزة، وارتباطه بخطة الدولة لتطوير المنطقة بالكامل ضمن مشروع “هضبة الأهرام الجديدة”، الذي يتضمن إنشاء طرق ومحاور حديثة وفنادق ومناطق ترفيهية.
ويأتي الافتتاح في لحظة فارقة تسعى فيها الدولة المصرية إلى تحويل الإرث الحضاري إلى محرك اقتصادي مستدام، إذ تتوقع تقديرات رسمية أن يسهم المتحف في زيادة أعداد السياح بنسبة تتراوح بين 20 و30% خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الافتتاح، مع توفير آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في قطاعات السياحة والنقل والخدمات الثقافية.
وتتضمن خطة الإدارة الجديدة للمتحف تنظيم فعاليات ثقافية مستمرة، مثل المهرجانات الفنية والمعارض المؤقتة والمؤتمرات العلمية الدولية، ليصبح المتحف مركزًا حيًا للمعرفة والتفاعل الثقافي، وليس مجرد مكان لعرض القطع الأثرية.
كما يجري التنسيق مع وزارات التعليم والثقافة والسياحة لتخصيص برامج تعليمية وتفاعلية للأطفال والشباب داخل المتحف، بما يعزز الانتماء والوعي بالتراث المصري.
وفي السياق ذاته، يرى خبراء السياحة أن المتحف المصري الكبير سيُحدث تحولًا نوعيًا في خريطة المقاصد السياحية، إذ من المتوقع أن يمتد متوسط إقامة السائح في القاهرة الكبرى من يومين إلى أربعة أيام على الأقل، بعد إدراج المتحف كمحطة رئيسية إلى جانب الأهرامات ومتحف الحضارة ومنطقة سقارة.
كما يُنتظر أن يستفيد قطاع الطيران من زيادة الرحلات المباشرة إلى القاهرة والجيزة، بالتزامن مع الترويج العالمي للحدث، خاصة من الأسواق الأوروبية والآسيوية.
ويؤكد خبراء الاقتصاد الثقافي أن المتحف المصري الكبير يمثل استثمارًا في الهوية الوطنية أكثر من كونه مشروعًا إنشائيًا، لأنه يربط التاريخ المصري القديم برؤية الدولة الحديثة في تقديم ثقافتها للعالم، ويعيد تعريف مفهوم “المتحف” ليصبح منصة اقتصادية وثقافية وسياحية متكاملة.
وقال الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار ووزير الآثار الأسبق، إن المتحف المصري الكبير هو هدية مصر للعالم في القرن الحادي والعشرين، مضيفًا أن افتتاحه سيضع مصر على خريطة الثقافة العالمية من جديد، ويعيد جذب اهتمام العالم بالحضارة الفرعونية كأعظم حضارات التاريخ.
وأكد عالم الآثار المصري أن يوم الأول من نوفمبر قد يصبح عيدًا لكل المتاحف العالمية،، موضحا أن الزخم الكبير المصاحب لافتتاح المتحف لا يرجع فقط إلى كونه الأكبر في العالم، بل لأنه سيضم المجموعة الكاملة لآثار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون، والتي تُعرض لأول مرة في مكان واحد منذ اكتشاف المقبرة.
وأوضح أن افتتاح المتحف المصري الكبير سيحقق لمصر مكاسب متعددة الجوانب، سواء اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو إعلامية وسياحية، مشيرًا إلى أن المتحف يمثل حدثًا ثقافيًا عالميًا ينتظره العالم أجمع، متابعا: «الآثار المعروضة داخل المتحف تُعد من أجمل وأندر مقتنيات الحضارة المصرية القديمة، وستجعل اسم مصر يتردد في كل أنحاء العالم لشهور طويلة بعد الافتتاح».
مشروع هوية ورسالة حضارية
والشاهد ان المتحف لم يكن مجرد منشأة أثرية، بل مشروع وطني يعبر عن إرادة الدولة في تحويل التاريخ إلى قوة للمستقبل، ورسالة بأن مصر، التي صنعت الحضارة قبل سبعة آلاف عام، لا تزال قادرة على الإبداع والتجديد والبناء، ويجمع المراقبون على أن هذا الافتتاح التاريخي يمثل لحظة رمزية فارقة في مسيرة الدولة المصرية الحديثة، لأنه يجسد التقاء الماضي العريق بالمستقبل الطموح، ويعيد رسم صورة مصر أمام العالم كقوة ثقافية وإنسانية قادرة على المنافسة والتأثير.
ففي زمن تتراجع فيه قيم الهوية لدى كثير من الشعوب، اختارت مصر أن تستمد من تاريخها قوة للمستقبل، وأن تقدم نموذجًا فريدًا في الاستثمار في الثقافة والمعرفة باعتبارهما من أهم ركائز التنمية الشاملة.
ويُتوقع أن يشهد المتحف خلال العام الأول من افتتاحه فعاليات دولية ضخمة، من بينها مؤتمرات علمية ومعارض مؤقتة للفنون المصرية القديمة والمعاصرة، فضلًا عن شراكات ثقافية مع متاحف عالمية كبرى مثل متحف اللوفر ومتحف المتروبوليتان ومتحف برلين المصري.
ومع اكتمال افتتاح المتحف المصري الكبير، تغلق مصر فصلًا طويلًا من التحضير والإعداد لتفتح فصلًا جديدًا من الحضور الثقافي الدولي، لتصبح القاهرة من جديد عاصمة للثقافة والحضارة في العالم، حيث تتجاور الأهرامات والمتحف في لوحة واحدة تختزل سبعة آلاف عام من الإبداع الإنساني المستمر.
إشادات عالمية وجوائز دولية
نال المتحف المصري الكبير على إشادات دولية أهمها حصوله على 8 شهادات "ISO" في مجالات الطاقة والصحة والسلامة المهنية والبيئة والجودة، إلى جانب منحه شهادة "EDGE Advance" للمباني الخضراء لعام 2024، كأول متحف أخضر في أفريقيا والشرق الأوسط.
وفاز المتحف بجائزة "فرساي"، كواحد من أجمل متاحف في العالم لعام 2024، وكذلك نال جائزة المشروع الأفضل على مستوى العالم لعام 2024، من قبل الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين "FIDIC".
وأكد دليل السفر"Lonely Planet"، أن المتحف المصري الكبير يعد أكبر مجمع متاحف أثرية في العالم مخصص لحضارة واحدة، فهو مقسم إلى عدة أقسام تغطي الحقبة من 700 ألف سنة قبل الميلاد إلى سنة 394 ميلادية.
ومن جانبها، أشارت منظمة "اليونسكو" إلى أن المتحف المصري الكبير سيمنح للزوار الأجانب والمصريين فرصة فريدة للتنقل عبر أكثر من 5 آلاف عام من التاريخ المصري القديم.
ويعد أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة "حضارة مصر القديمة"، ويمتد على مساحة 490 ألف م2، ويضم مدخلًا رئيسًا بمساحة نحو 7 آلاف م2، به تمثال للملك رمسيس الثاني، كما يضم أكثر من 57 ألف قطعة أثرية تروي تاريخ مصر عبر العصور، بالإضافة إلى الدرج العظيم الذي يمتد على مساحة حوالي 6 آلاف م2، بارتفاع يعادل 6 طوابق.
كما يضم المتحف 12 قاعة عرض رئيسة بمساحة نحو 18 ألف م2، وقاعات عرض مؤقت بمساحة حوالي 1700 م2، وكذلك قاعات لعرض مقتنيات الملك توت عنخ آمون على مساحة تقارب 7.5 ألف م2، تشمل أكثر من 5 آلاف قطعة من كنوز الملك تُعرض مجتمعة لأول مرة، بالإضافة إلى متحف الطفل بمساحة نحو ٥ آلاف م2.
التحول الرقمي الشامل في المتحف
وأعدت إدارة المتحف مشروع التحول الرقمي الشامل، الذي يهدف إلى رقمنة مقتنيات المتحف بالكامل، عبر قاعدة بيانات ضخمة تضم صورا ثلاثية الأبعاد، ووصفا تفصيليا لكل قطعة، ومعلومات تاريخية دقيقة باللغتين العربية والإنجليزية، مع إمكانية التصفح باللغات الأخرى مستقبلا.
ولا يقتصر الأمر على العرض الافتراضي، بل يمتد إلى تجارب تفاعلية تمكن الزائر من التجول داخل قاعات المتحف افتراضيا باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز (VR/AR)، وكأنه يسير بنفسه بين التماثيل والمومياوات.
وجاء الهدف من تطبيق هذه التقنيات ليس فقط جذب الزوار، بل تعزيز الوعي الثقافي العالمي بالحضارة المصرية من خلال تجربة تعليمية حديثة ومفتوحة، تربط بين المعرفة والترفيه، وتحوّل المتحف إلى فصل رقمي مفتوح للعالم.
وأحد أبرز ملامح خطة التحول الذكي هو إدخال أنظمة الذكاء الاصطناعي في إدارة تجربة الزائرين، فمنذ لحظة دخول المتحف، يستقبل الزائرين تطبيق ذكي يرشدهم إلى مسار الزيارة الأمثل وفق اهتماماتهم، سواء كانت الآثار الملكية، أو الفن المصري القديم، أو المومياوات الملكية.
كما يتيح التطبيق إمكانية الحوار الصوتي مع مساعد افتراضي ناطق يجيب على الأسئلة التاريخية والثقافية فورا، مما يحول الزيارة إلى رحلة معرفية شخصية تتكيف مع كل زائر على حدة.
ولم ينس المتحف الجيل الجديد، إذ يقدم تجربة مخصصة للأطفال والشباب تعتمد على الألعاب التعليمية والاختبارات التفاعلية، ما يجعل التعلم عن التاريخ متعة رقمية لا تنسى.
وانطلاقا من فلسفة "المتحف للجميع"، عملت الإدارة على إطلاق منصة إلكترونية متكاملة تمكن الزوار من حجز التذاكر، والقيام بجولات افتراضية، ومتابعة الفعاليات الثقافية مباشرة عبر الإنترنت.
وتتيح المنصة محاضرات وورش عمل رقمية بالتعاون مع الجامعات العالمية، ما يجعل المتحف ليس مجرد مكان للعرض، بل مركزا عالميا للبحث والتعليم والتفاعل الحضاري.
نحو مستقبل أخضر ومستدام
وأكد الدكتور عاطف محمد كامل أحمد، سفير النوايا الحسنة وعضو اللجنة العلمية والإدارية لاتفاقية "سايتس"، والخبير الدولي في الحياة البرية والمحميات الطبيعية والتنوع البيولوجي بمنظمات اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية والاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)أن المتحف المصري الكبير يمثل نموذجًا عالميًا فريدًا يجسد معايير الاستدامة البيئية والثقافية في أرقى صورها، ويعكس التزام الدولة المصرية برؤية مصر 2030 للتحول نحو مستقبل أخضر ومستدام، موضحاً أن المتحف يعد واحدًا من أهم المشروعات القومية التي تجمع بين عبقرية الماضي وروح الحاضر واستشراف المستقبل، مشيرًا إلى أنه لا يقتصر على كونه أكبر صرح يضم آثار مصر القديمة، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا حضاريًا للتنمية المستدامة على المستويات البيئية والثقافية والاقتصادية.
وأضاف أن المتحف حصل على شهادة EDGE Advanced كأول متحف في إفريقيا والشرق الأوسط يحقق هذا التصنيف العالمي، بما يؤكد التزامه بتطبيق معايير البناء الأخضر في التصميم والإدارة، كما أشار إلى أن تصميم المتحف يعتمد على أحدث الأنظمة الذكية لترشيد استهلاك الطاقة والمياه والتحكم في الحرارة والرطوبة، بما يسهم في الحفاظ على البيئة الداخلية للقطع الأثرية وتقليل الانبعاثات الكربونية، كما تسعى الإدارة إلى تحقيق الحياد الكربوني الكامل وتنفيذ برامج توعية بيئية تستهدف الأطفال والشباب لتعزيز الوعي بأهمية حماية البيئة والتنوع البيولوجي.
وأضاف أن المتحف يولي اهتمامًا خاصًا بجودة الهواء والضوضاء داخل محيطه لضمان بيئة صحية تحافظ على القطع والعاملين والزوار على حد سواء، مما يجعله نموذجًا يحتذى به في دمج البعد البيئي في إدارة المؤسسات الثقافية.
وفيما يتعلق بالاستدامة الاجتماعية، أوضح أن المتحف يمثل مشروعًا وطنيًا متكاملًا للحفاظ على التراث المصري الممتد لآلاف السنين، حيث يضم مجموعة ضخمة من القطع الفريدة التي تم ترميمها وفق أحدث المعايير العلمية، ليقدم تجربة غير مسبوقة تمزج بين الأصالة والتكنولوجيا. كما أكد أن المتحف يعد مؤسسة تعليمية وثقافية تتيح المعرفة عبر الأنشطة التفاعلية وورش العمل والمعارض التعليمية، مع مراعاة تامة لاحتياجات ذوي الهمم لتمكينهم من الاستفادة الكاملة من المرافق والخدمات.
وشدد على أن المتحف يعمل على بناء شراكات علمية وثقافية محلية ودولية ليصبح منصة عالمية للحوار والتبادل الثقافي ومركزًا للتعلم والابتكار في مجال إدارة التراث. أما على الصعيد الاقتصادي، مشيرا إلى أن المتحف يعد قاطرة جديدة للتنمية المستدامة، نظرًا لدوره في تنشيط السياحة الثقافية وخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة للشباب، مؤكدًا أن هذا المشروع يجسد رؤية مصر للمستقبل، حيث يلتقي الحفاظ على التراث الإنساني مع حماية البيئة والتنمية المتوازنة، ليصبح المتحف منارة حضارية عالمية تنطلق من أرض مصر إلى العالم.