اللوفر والذاكرة المثقوبة

الجمعة، 31 أكتوبر 2025 06:54 م
اللوفر والذاكرة المثقوبة
حمدي عبد الرحيم

قد تعود المسروقات وقد لا تعود ولكن يبقى الدرس فعندما تنهب الآخرين فإن ولدًا لك سينهبك
 
بدأ تاريخ متحف اللوفر بوصفه قلعة بناها الملك فيليب الثاني عام 1190 ثم أصبحت القلعة قصرًا ملكيًا، ثم تحول القصر إلى المتحف الحالي.
 
هذا المتحف الموصوف بالعالمية وبأنه الحضن الحنون الذي يرعى كل فنون الحضارة الإنسانية، هو في حقيقته خير معبر عن التوجهات الاستعمارية، وعن نهب القوى الأوربية المتغلبة لحضارات قديمة وقعت تحت قبضتها، لك أن تعلم أن المتحف الذي يضم خمسمئة ألف قطعة، لن تستطيع مهما حاولت الوصول إلى عدد القطع الفرنسية الاصيلة أو حتى الأوربية، التي يعرضها، وهذا لأن المتحف يكتفي بأن يقول متفاخرًا: نضم ونعرض كنوز الحضارات الإنسانية وعلى رأسها الحضارة المصرية القديمة فلدينا خمسين ألف قطعة جاءت من مصر!
 
كيف جاءت من مصر؟ لا تسل.
 
الأمر ببساطة وبصراحة، كان لا يخرج عن تسخير دولة كانت إمبراطورية لكل قواها لكي تستولي على كنوز الآخرين، مرة لأنها التي نقبت واكتشفت ومرة لأنها سطت سطوًا يكاد يكون مسلحًا فاستولت على ما وقع تحت يديها، ومرة لأن أصحاب الكنوز قدموا بعضها، خائفين مرة من العصا وراغبين مرة في الجزرة.
 
تاريخ المتحف ومقتنياته هو خير ملخص لتاريخ النهضة الأوربية التي قامت على نهب ثروات المستعمرات، أما التفاخر بأنه متحف إنساني يحافظ على كنوز الحضارات، فوقاحة استعمارية معروفة ومكررة.
 
في صباح التاسع عشر من أكتوبر تعرض المتحف لسرقة جهنمية، لصوص مدربون لا شك في ذلك صعدوا إلى الطابق الثاني باستخدام الونش الذي يستخدم عادة في نقل الأثاث، وفي سبع دقائق فقط كانوا قد حصلوا على ما يريدونه ثم فروا وذابوا بين الجموع، تفاصيل الحادثة أشهر من أن أعيد رواية تفاصيلها، ولكن توقفت عند ثلاثة أمور.
 
الأمر الأول هو: فيما ـ لا قدر الله ـ تعرض متحف يخصنا (أعني نحن الذين جرى نهب كنوزهم) للسرقة، ترى كيف كان سينظر الأوربي بل الغربي بصفة عامة إلى الموقف؟
 
كان سيولول ويتباكى على الكنوز المهدرة، وكان سيلمز ويغمز ويقول: هؤلاء لا يقدرون كنوزهم بل لا يعرفونها أصلًا ونحن أحق بها منهم.
ما كان واحد منهم سيلتمس لنا عذارًا أي عذر، بل كنا سنسمع التوبيخ والتقريع بل والسخرية من إجراءاتنا الأمنية ومن كسل موظفينا وإلى آخر هذه الأسطوانة المشروخة.
 
الأمر الثاني هو: بكاء الرسميين الفرنسيين والأوروبيين على سرقة حضارتهم!
 
عن أي حضارة يبكي كل هؤلاء؟
 
أنتم أقمتم متاحفكم على جثث أمم قهرتموها وغلبتموها على أمرها، فجاء من بني جلدتكم من سرق بعضها، أين هي حضارتكم المسروقة؟ اللهم إلا إذا اعتبرنا قتلكم لملايين البشر في رحلتكم الاستعمارية هو الحضارة والمدنية التي قدمتموها للبشرية.
 
إنكم أيها السادة تتمتعون بذاكرة مثقوبة، تحتفظ بما هو في صالحكم فقط أما غير ذلك فتلقون به إلى زوايا النسيان.
 
أما الأمر الثالث والأخير، فهو للحق، قد أنعشني، لأنه يثبت مجددًا أن الخير ليس معدومًا بين بني البشر، فهناك من يشهد بالحق ويتحرى الصدق، والذين شهدوا بالحق وتحروا الصدق كانوا جماعة من مثقفي فرنسا، فقد نشرت جريدة لوموند مقالًا جاء فيه: "حين يُسرق متحف بُني على الغنائم، فذلك ليس جريمة ضد الفن فقط، بل عودة تاريخية إلى نقطة البدء.
 
لقد جاء من يذكّرنا بأننا لسنا أوصياء على الجمال، بل غزاة قدامى للذاكرة الإنسانية.
 
سرقة اليوم تُجبرنا على الاعتراف بأن اللوفر، قبل أن يكون معبدًا للفن، هو سجلٌّ لما نهبته الإمبراطورية الفرنسية من الآخرين، ربما هذه المرة الأولى التي يشعر فيها الفرنسيون بطعم ما شعرت به الشعوب التي سُلبت كنوزها منذ قرنين".
 
وعن سلب الكنوز تحدثت افتتاحية جريدة ليبراسيون فقالت: "لقد جُرّد اللوفر من رموز سلطته في وضح النهار، كما جُرّدت حضاراتٌ كثيرة من مجدها في ليل الاستعمار. فرنسا التي ترفض إعادة آثار بنين ومصر والجزائر، تذوق اليوم مرارة فقدان رموزها الخاصة".
 
قد تعود المسروقات (تحدثوا عن القبض على اثنين تحوم حولهما الشبهات)، وقد لا تعود ولكن يبقى الدرس، فعندما تنهب الآخرين فإن ولدًا لك سينهبك.
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة

اللوفر والذاكرة المثقوبة

اللوفر والذاكرة المثقوبة

الجمعة، 31 أكتوبر 2025 06:54 م