مفتي الجمهورية: الفتوى في الشريعة الإسلامية تمثل منهجًا أصيلًا يقوم على استحضار الواقع الإنساني
الإثنين، 15 ديسمبر 2025 02:29 م
منال القاضى
أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، أن الفتوى في الشريعة الإسلامية تمثل صناعة علمية راسخة ومنهجًا أصيلًا يقوم على استحضار الواقع الإنساني وفهم تعقيداته، ولا تُعد حكمًا يُلقى في فراغ أو قولًا منفصلًا عن سياقه، مشددًا على أن رسالتها الأساسية هي صون الإنسان وحماية المجتمع وبناء الوعي الرشيد.
جاء ذلك في كلمته خلال الندوة الدولية الثانية بمناسبة اليوم العالمي للفتوى، التي عُقدت تحت عنوان «الفتوى وقضايا الواقع الإنساني»، برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحضور وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري نائبًا عن رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، والدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر، والدكتور أحمد الحسنات مفتي الأردن، والدكتور محمود الهباش مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
وأوضح مفتي الجمهورية أن عنوان الندوة يستدعي مقدمات واسعة وراسخة في صناعة الفتوى والنتائج المثمرة المترتبة عليها، لافتًا إلى أن منهج «يسألونك» القرآني يمثل أساسًا أصيلًا يربط الفتوى بالواقع، ويصون الإنسان في روحه وعقله وقلبه، وفي قوله وعمله، وفي دنياه وآخرته، ويحفظ علاقته بنفسه وبغيره.
وأشار إلى أن المتأمل في المواطن القرآنية التي ورد فيها هذا المنهج " يسألونك " يقف على الصلة الوثيقة بين الفتوى والواقع الذي تُصوَّب فيه، حيث عالج القرآن أسئلة الإنسان عن الروح، والمصير، والساعة، والتاريخ للعبرة والاتعاظ، وقصص الأمم السابقة، موضحًا أن نزول القرآن جاء متدرجا استجابة للحوادث الطارئة والأسئلة المستجدة، وكشف عن إعجاز بديع في مطابقة الخطاب الإلهي لواقع الناس واحتياجاتهم المختلفة.
وأكد أن هذا المنهج القرآني القائم على استحضار الواقع وإدراك تعقيداته يرسخ أن الفتوى ليست اجتهادًا فرديًا عابرًا، بل مسؤولية علمية ومؤسسية، خاصة في عالم معاصر يشهد اضطرابًا إنسانيًا عميقًا، وصراعات وحروب وتحديات اقتصادية وصحية وبيئية تهدد أمن الإنسان واستقراره، ما يضاعف مسؤولية الفتوى المؤسسية في توجيه الوعي العام نحو الرشد والاعتدال.
وأضاف أن دار الإفتاء المصرية أدركت مبكرًا خطورة التحولات العالمية، فبادرت إلى تأسيس أطر إرشادية للتعامل مع الطوارئ، وتجلى دورها خلال جائحة كورونا، حيث قدمت نموذجًا علميًا رصينًا أسهم في حفظ الأرواح وصون الأمن المجتمعي، والحد من فوضى الفتاوى التي تهدد الوعي وتؤدي إلى عدم استقرار الدول.
وأوضح مفتي الجمهورية أن دار الإفتاء تتحمل مسؤوليات أصيلة تجاه القضايا الإنسانية الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، من خلال بناء خطاب إفتائي رشيد يضبط الوعي الديني ويواجه محاولات تزييفه أو توظيفه سياسيًا، مؤكدًا صدور فتاوى واضحة تصون الأرض والعرض، وتدين محاولات التهجير، وتفضح الجرائم التي لا يقرها دين ولا قانون، مع الدعوة إلى إغاثة المتضررين ودعمهم.
وأكد أن دار الإفتاء اتخذت مسارات متعددة في هذا الشأن، من بينها التأكيد الصريح على عدالة القضية الفلسطينية ومشروعية حقوق الشعب الفلسطيني شرعًا باعتبارها حقوقًا ثابتة لا يجوز التفريط فيها، إلى جانب مواجهة الخطابات الزائفة التي تستغل المفاهيم الدينية في غير سياقها، بما يحفظ الدين ويحمي القضية.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أنه في عصر تتسارع فيه الأحداث والمعلومات والثقافات عبر شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت، تبرز أهمية الفتوى الرقمية الرشيدة، التي لا تُعد مجرد أداة تقنية، ولا تقتصر على استخدام الوسائل الحديثة، بل تمثل إطارًا متكاملًا لتعزيز الوعي في عالم متغير، وتنشيط التعامل الواعي مع المحتوى، مع الحفاظ على القيم والثوابت التي تشكل هوية الفرد وقدرته على التمييز بين الصواب والخطأ.
وأوضح أن العولمة الرقمية تفرض تأصيل مفهوم الذات الثقافية بوصفها المرجعية الضابطة لسلوك الفرد وقيمه، والقادرة على الإجابة عن سؤال: ماذا أؤمن به؟ وما المبادئ التي تحكم اختياراتي؟ لافتًا إلى أن هذه الذات نسيج متكامل، يتجسد في بعده القيمي الصدق والأمانة والعدل والكرامة والمساواة، وفي بعده الفكري المعتقدات والمعارف التي ترسم مسار الفهم والتحليل.
وشدد على أن اللحظة التاريخية الراهنة تتطلب من مؤسسات الفتوى أن تكون أكثر وعيًا بالواقع، وأعمق اتصالًا بالإنسان في حاجاته وضعفه ومعاناته، مؤكدًا أن الفتوى ليست رفاهية معرفية ولا خطابًا نظريًا، بل مهمة علاجية ومسؤولية بنائية لإعادة تشكيل الوعي الإنساني.
وأكد في ختام كلمته أن التعامل المعاصر مع قضايا النزاعات المسلحة، وحماية المدنيين، وسبل الإغاثة والعلاج والتعليم والعمل، ورفع الحرج عن الفقراء، وإزالة العوائق التي تحول دون التنمية والارتقاء، يجب أن ينطلق من هذا الفهم الرشيد للفتوى، باعتبارها قلب الرحمة وعقل الحكمة وأداة لضبط المجتمع، تسهم في تخفيف المعاناة، وتحقيق العدالة، وترسيخ مبادئ التكامل والتعايش.