إنذار نهائي

السبت، 20 فبراير 2016 03:47 م
إنذار نهائي
عبد الحليم قنديل يكتب


تحتاج مصر الآن إلى ثورة تصحيح شاملة للانحراف (الفلولى) بالحكم بعد هبة الثلاثين من يونيو ، تماما كما كانت الثلاثين من يونيو نفسها رغبة شعبية فى تصحيح الانحراف (الإخوانى) بعد الثورة الأصلية فى 25 يناير .


وقد كنا نتصور أن يقوم الرئيس السيسى نفسه بهذه المهمة ، وأن ينهى الخلل والتناقضات الفادحة فى النظام الذى يحكم به ، لكن الرئيس تردد ، وترك الأمور تجرى على علاتها ، وهو ما أدى بالحكم إلى حالة فوضى ، واختلاط صور ، وعودة إلى السياسات القديمة نفسها ، وتصاعد أزمات السياسة والاقتصاد ، وتراجع التأييد الشعبى إلى حدود تنذر بالخطر ، ودون فارق ملموس سوى فى دور الجيش الذى يحمى ويبنى .


وقد لانريد العودة إلى تأكيد البداهات ، فثمة إنجازات لاتخطئها العين المنصفة ، وبالذات فى حركة المشروعات الكبرى ، ومن نوع تنمية قناة السويس ، وشبكة الطرق والمدن الجديدة ، والشروع الطموح فى استصلاح مليون ونصف مليون فدان للزراعة ، إضافة ـ بالطبع ـ للبدء فى تنفيذ محطات الضبعة النووية ، والزيادة الطفرية فى توليد الطاقة الكهربائية ، وإنهاض الصناعات العسكرية ، وتنويع مصادر السلاح ، وتعظيم قوة الجيش ، وإلى سواها من إنجازات مرئية ، تديرها وتشرف عليها هيئات الجيش غالبا ، وتوظف فيها مئات الشركات المدنية ، ونحو المليون مهندس وفنى وعامل مدنى ، ناهيك عن التطورات الإيجابية عموما فى تقليص التبعية الموروثة للأمريكيين ، وفى استعادة ملامح لاستقلال القرار الوطنى ، وصوغ سياسة خارجية مقبولة بصورة عامة ، وإن اتسمت بالحذر والتردد ، والحرص على تجنب التورط بالخطأ ، وليس التقدم إلى مخاطرة محسوبة وصواب مطلوب ، وكل ذلك مما قد لايصح نكرانه ، لكن المشكلة ـ مع ذلك ـ تبدو ظاهرة ، فلا يمكن تطوير سياسة خارجية صحيحة ، دون سياسات داخلية لها نفس الصحة ، ومقابل التخطيط النسبى فى السياسة العربية والإقليمية والدولية ، فلا تخطيط من أصله فى الداخل ، والفوضى المتخبطة تحكم الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية ، والتناقض محتدم بين التقدم إلى اختيارات وطنية غير مكتملة ، والتراجع إلى اختيارات زمن الانحطاط فى السياسة والاقتصاد ، وفضلا عن بؤس الخيارات واضطراب الأساليب ، تبدو الحيرة والعشوائية ظاهرة فى البحث عن أدوات التنفيذ ، فلا يبدو من طرف فى جهاز الدولة يعمل بإيقاع الرئيس سوى الجيش ، وسوى رأسماليته النامية فى المشروعات الكبرى ، بينما تبدو الحكومة والبرلمان وجهاز الإدارة الفاسد فى مكان آخر تماما ، يسيطر عليها تحالف البيروقراطية الفاسدة ورأسمالية المحاسيب ، وبصورة بدت كأنها القدر المفروض على الرئيس ، لايملك منه فكاكا ، ويكاد يسلم بمصالحه ، ويخضع لأهوائه ، وإن حاول أن يفلت منها أحيانا ، ويخوض ضدها معارك صغيرة متفرقة ، قد تصيبها بجروح ورضوض سطحية ، لكنها تعود دائما أقوى مما كانت ، وتتصرف بشراسة وعنجهية ، وتلوى ذراع الرئيس ، وترغمه على إلغاء قراراته ، وعلى نحو ما جرى فى إلغاء قرارات الضريبة الاجتماعية وضريبة أرباح البورصة ، ثم على نحو ما يجرى الآن من مافيا المستوردين ، والتى بلغت جرأتها إلى حد عرض "رشوة" على الدولة و"صندوق تحيا مصر" الذى يديره الرئيس ، فقد عرضوا مبلفا يصل إلى 110 مليار جنيه على مدى خمس سنوات ، مقابل إلغاء قرارات محدودة لتقييد الاستيراد الترفى ، ولا بأس عندهم أن يشتروا الدولة ، كما اشترى رفاقهم مقاعد البرلمان ، فى تطور يكشف طبيعة القوى والمصالح المؤثرة فى الحكم الراهن ، فلم يدرك الرئيس بعد طبيعة الاختلاف بين تنظيم الجيش وتنظيم المجتمع ، فتنظيم الجيش انضباطى ، وعقيدته وطنية جامعة ، وهو ما يختلف عن تنظيم المجتمع متعارض المصالح بطبعه ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، وصيحة "تحيا مصر" فى الجيش مختلفة عن "تحيا مصر" فى المجتمع ، ولا بأس عند "رأسمالية المحاسيب" ، أن تردد مع الرئيس شعاره الأثير "تحيا مصر" ، لكنها تقصد "تحيا مصر" التى فى جيب أغنياء النهب العام ، والذين يشكلون مع امتداداتهم واحدا بالمئة فقط من المصريين ، ويملكون نصف الثروة الوطنية بالتمام والكمال ، فيما لايملك التسعون بالمئة من المصريين، وهم جماع الفقراء والطبقات الوسطى ، سوى الربع من فتات الثروة ، ويقع أربعون بالمئة ـ على الأقل ـ من المصريين تحت خط الفقرالدولى ، فيما يتهدد خمسون بالمئة أخرى خطر الوقوع إلى القاع ، خاصة مع الغلاء المتوحش ، وارتفاع تكاليف المعيشة ، أضف ـ من فضلك ـ أعباء البطالة والبؤس والمرض ، وتردى الخدمات العامة ، وانقسام مصر اجتماعيا إلى "مصرين" ، مصر "الكومباوندات" ومصر "العشوائيات" ، وهذا هو الجحيم الاجتماعى بعينه ، والذى لا يبدو الرئيس السيسى مباليا به ، برغم كثرة كلامه عن "الغلابة" ، وعن "الحنو" و"الرفق" بالشعب ، وعودته إلى ترديد كلام المخلوع مبارك عمن يسميهم بمحدودى الدخل ، بينما هم من منهوبى الدخل لا محدودى الدخل ، ولا تصح معاملتهم على طريقة رمى الفتات ، أو الكلام فارغ المعنى عن برامج "حماية اجتماعية" ، لاتغنى ولا تسمن ، ولا تحجب حقيقة التفات الرئيس عن الانحياز للفقراء والطبقات الوسطى العاملة المنتجة ، والتفاته إلى الانحياز ـ بالعمد أو بالترك ـ لتحالف أغنياء النهب ، تحالف البيروقراطية الفاسدة ورأسمالية المحاسيب وعائلات الالتصاق المزمن بالجهاز الأمنى ، وهؤلاء هم "تحالف المماليك" الذين حكم بهم المخلوع مبارك ، وهم "الأصول" التى نسميها إعلاميا بالفلول ، ولم يستمع الرئيس السيسى إلى نصائح مبكرة بتصفية نفوذهم ، وإجراء "مذبحة مماليك" يفتح بها طريقه إلى قلوب الأغلبية الساحقة من المصريين ، بل حدث العكس بالضبط ، وانتفخ تحالف المماليك ، وتفشى الفساد بصورة أكثر غلظة وفجاجة مما كان عليه أيام مبارك نفسه ، وجرى تجنيد طاقة الدولة وأجهزتها لإقامة حفلات تكريم الفساد والفاسدين ، وغض الطرف عن قضية استرداد مئات المليارات الضائعة المنهوبة ، والتى وصلت فى عمليات نهب الأراضى وحدها إلى تريليون جنيه ، ناهيك عن التراكم المتصل لسرقات "خصخصة" و"مصمصة" الأصول والشركات، والتى بلغت قيمتها عشرات التريليونات على مدى العقود الأخيرة ، وقد جرى إغلاق الملفات كلها ، والالتفات عن مبدأ العدالة إلى حالة التسليم بما هو كائن ، والتغاضى عن التهرب من الضرائب والتهرب من الجمارك ، بل وتخفيض الضرائب عن المليونيرات والمليارديرات ، وجعل الحد الأقصى للضرائب فى حدود 22.5% لاغير ، وهو لا يساوى نصف ولا ثلث الحد الأقصى المعمول به فى دول الدنيا الرأسمالية شرقا وغربا ، وكأنه لايكفى أغنياء النهب ماسلبوه ، بل لابد من تدليلهم ، وتمكينهم من تجريف و"شفط" ما تبقى من أصول البلد وبقايا عظامها .


هذه ـ للأسف ـ هى الصورة التى انتهينا إليها حتى الآن ، والتى لاتسر حبيبا ، مع تراكم فوائض القمع ، وملء السجون بعشرات الألوف من الشباب غير المتهمين فى قضايا عنف وإرهاب مباشر ، ومع إحلال المقاولة محل السياسة ، وزيادة سطوة الأجهزة الأمنية ، التى تتداخل مصالح كبارها مع مصالح رأسمالية المحاسيب المهيمنة على الإعلام والمال ، والتى تواصل معاركها لاحتواء وحصار الرئيس السيسى ، وإغراقه فى تلال الأزمات الاقتصادية ، وإشعال جنون الدولار ، وتهريب مئات المليارات للخارج ، ودفع الدولة بالإنهاك المتوالى إلى الخضوع التام ، وهو ما يحدث الآن للأسف ، وبتسليم وقرارات من الرئيس السيسى نفسه ، تنزل بجبروتها على أم رأس الفقراء والطبقات الوسطى ، وينسى معها أنه وعد سواد المصريين بتحسن المعايش بعد عامين من حكمه ، ولم تبق سوى شهور قليلة على موعد الوعد الذى لا يتحقق ، فيما يجرى تغيير الخطاب الآن ، والحديث عن ضرورة الانتظار لعامين أو لثلاثة أعوام أخرى ، تدعى فيها غالبية المصريين إلى تقديم المزيد من التضحيات ، وإلى شد الأحزمة على بطون فارغة ، فقد انتهت تضاغطات الحكم الداخلية إلى النصر المبين لأغنياء ومماليك النهب ، وصار على الفقراء والطبقات الوسطى أن يدفعوا الثمن من اللحم الحى، وأن يجرى تحميلهم أعباء إصلاح العجز المريع فى الموازنة العامة ، وتدبير إيرادات مطلوبة للدولة المفلسة ، وتحمل ما تسميه حكومة السيسى ـ وكلها من الفلول ـ بالقرارات "الصعبة" و"المؤلمة" ، برفع دعم الطاقة رغم الانخفاض العالمى فى أسعار البترول إلى الربع ، ومضاعفة أسعار البنزين والسولار والغاز والمياه والكهرباء وتذاكر المترو ووسائل النقل العام ، فوق إشعال غلاء السلع كلها بخفض وشيك كبير فى سعر الجنيه ، وهو ما يفاقم أعباء خدمة الديون ، والتى تزيد منها حكومات السيسى باللجوء إلى الاقتراض مجددا ، وفرض شروط صندوق النقد والبنك الدوليين ، وفتح الباب لخصخصة "المصمصة" من جديد ، وبيع البنوك والأصول والشركات العامة ، وهو ما يعنى بدء دورة نهب جديدة ، تضيع فيها مصر بأكثر مما ضاعت ، وتلغى القيمة الإجتماعية لأى إنجازات مضافة تتم ، فالجواب ظاهر من عنوانه ، والمطلوب فيه عصر الشعب المصرى على طريقة "عصر الليمونة" ، والمصريون بغالبيتهم الساحقة صبروا بما يكفى ، وأعطوا الفرصة تلو الفرصة للرئيس السيسى برجاء تصحيح الأوضاع ، لكنهم لن يصبروا هذه المرة بعد أن فاض الكيل ، ولن يمرروا ما يسميه شريف إسماعيل رئيس وزراء السيسى بالقرارات "المؤلمة" التى لا تحتمل انتظارا ، فلم يعد بالوسع تحمل المزيد من الظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى ، ولم يقم المصريون بثوراتهم ، ولا قدموا قوافل شهدائهم ، ليحكمنا أغنياء النهب وسدنة الفساد ، ولا يصح لأحد أن يستهين بالشعب المصرى ، ولا بغضبه الاجتماعى الذى تتوالى أماراته ، فالشعب وحده صاحب ثورته ، وهو القادر على تصحيحها بحركة الناس السلمية ، ومصر قد تبدو هادئة كصفحة النيل ، لكنها فى لحظة ، قد تنقلب إلى بلد داهس كأقدام الفيل ، وقد أعذر من أنذر ، فاستفيقوا يرحمكم الله قبل فوات الأوان .

 

تعليقات (1)
يسلم فومك
بواسطة: محمود عامر
بتاريخ: الأربعاء، 24 فبراير 2016 03:24 ص

يسلم فومك و قلمك يا حولوم. يسقط أغنياء النهب و سدنة الفساد و أهل النفاق.

اضف تعليق


الأكثر قراءة