الحقيقة المحجوبة عن "وثائق بنما"

السبت، 09 أبريل 2016 03:52 م
الحقيقة المحجوبة عن "وثائق بنما"
عبد الحليم قنديل يكتب

ربما لاتكون من قيمة تبقى فى "وثائق بنما"، سوى أنها كشف التلاعب الذى جرى ويجرى فى القاهرة ، وعلى مدى خمس سنوات من تواطؤ نظم ما بعد الثورة مع اللصوص .


وليست القصة فى شركة "بان وورلد" التى ظهرت وثائقها فى حملة المنظمة الدولية للصحفيين الاستقصائيين ، وتبين أنها مملوكة لعلاء مبارك ، ولايعلم بالضبط حجم الأموال التى ذهبت إليها ، وجرى تسجيلها عبر وسطاء ماليين فى "جزر العذراء البريطانية" ، والأخيرة واحدة من عشرات مناطق "الأوف شورز" حول العالم ، وتستخدم عادة فى غسل الأموال المنهوبة والمهربة ، أو المتحصلة عن جرائم وتجارات سوداء ، وحيث لا نظم ضرائب ولا مراجعات محاسبة على الإطلاق ، ويلجأ إليها لصوص الأوطان من طراز عائلة المخلوع مبارك وحوارييه ومسئوليه ورجال أعماله ، وبهدف إخفاء السرقات ، ثم إعادة تدويرها ـ بعد الغسل ـ إلى عواصم وبنوك وصناديق أموال ، تبدو بريئة وقانونية ، وعلى طريقة ما فعله علاء مبارك ، الذى قدم للوسطاء جواز سفره المصرى ، وفى خانة المهنة "أعمال حرة" ، وعلى عنوان إقامة فى لندن ، ومن شقة فاخرة فى عاصمة الضباب، أنكر فى تحقيقات القاهرة أى صلة له ـ أولأخيه جمال ـ بها ، وصدقه المحققون السذج ، وأغلقوا الملف كما رغب .


وليست القصة المكشوفة بوثائقها الآن ، سوى "عينة بينة" ، ومثال صغير على طبيعة ما جرى فى الخفاء ، وجرى به نزح تريليونات الجنيهات عبر وسطاء ماليين وعائليين وسياسيين ، عبر عواصم عربية وغربية وآسيوية ، ويعلم الله وحده حجم المبالغ التى سرقتها ونزحتها عائلة مبارك ، وأخفتها فى شركات "الأوف شورز" ، أو على سبيل الأمانة المحفوظة لدى الأصدقاء والأمراء والملوك إياهم ، وقد قدرت صحيفة "الجارديان" البريطانية حجم ثروة عائلة مبارك وقت خلعه ، وذكرت أن العائلة تملك ما تزيد قيمته على سبعين مليار دولار ، ولم يستطع أحد وقتها أن يثبت صحة تقرير "الجارديان" ، ولا ظهرت وثائق تؤيده ، اللهم إلا وثائق شركة علاء مبارك المخفية المنشورة أخيرا ، وكانت "الجارديان" ـ نفسها ـ بين عشرات وسائل إعلام الدنيا المشاركة فى التحقيق الاستقصائى المذهل عن ثروات زعماء العالم المخفية.


وقد يقال أن السلطات المصرية قد تتحرك بعد كشف عينة من وثائق الثروات المخفية ، وهذا ما لانرجحه ، وربما لانأمل فيه ، فقد لا يفعلون شيئا ، سوى إعادة فتح دفاتر علاها التراب ، وإجراء تحقيقات صورية جديدة ، ربما لاتنتهى إلى شئ غير ما حدث ويحدث ، فقد اكتفت السلطات من الغنيمة بالقتات ، وفتحت أدراج "الكسب غير المشروع" لتلقى رشاوى صغيرة ، وقيل أن مجموع ما تعتزم عائلة مبارك ورجاله دفعه لا يزيد عن مليار دولار بأسعار صرف السوق الموازية هذه الأيام ، فالمبلغ المعلن عنه لقاء المصالحات لا يزيد عن 11 مليار جنيه مصرى ، يسدد حسين سالم ـ ظل مبارك ـ نصفه ، فيما لاتدفع عائلة مبارك نفسها سوى "الفكة" ، وعلى طريقة تسديد 147 مليون جنيه محكوم بها فى قضية سرقات القصور الرئاسية ، ومقابل إغلاق كل الملفات ، وإسقاط كافة الأحكام القضائية ، وعودة اللصوص للاستمتاع بما سرقوا ونهبوا ، وفتح مزاد السخرية المريرة من كل ما جرى ويجرى ، فالمبالغ التى يقال أنها ستعاد عبثية بامتياز ، ولاتكاد تساوى نصف المبالغ التى أنفقتها الدولة على محاكمات صورية لمبارك وعائلته ورجاله ، مضافا إليها فاتورة علاج مبارك فى مستشفى المعادى على نفقة الدولة ، فوق عشرات الملايين من الجنيهات جرى إنفاقها كمكافآت للقضاة ورجال الشرطة فى المحاكمات وترتيباتها ، وقرابة المئة مليون جنيه أخرى ، جرى إنفاقها على تشكيل لجان استرداد الأموال ، وعلى سفرياتها ونزهاتها إلى سويسرا وعواصم الاتحاد الأوروبى ، والتى عادت منها كما ذهبت ، فلم تستعد مصر مليما واحدا من الأموال المنهوبة المهربة للخارج ، ثم أنها دفعت فى الداخل أضعاف المبالغ العائدة بقانون المصالحات سئ السمعة ، وبما يكشف حقيقة التواطؤ مع اللصوص .


والذين يتواطأون لايحققون بجدية ، فهم فقط يخادعون الناس ، ويضحكون على الذقون ، ثم يدعون أنه ما باليد حيلة ، وهكذا فعلوا من أول يوم بعد خلع مبارك فى 11 فبراير 2011 ، كان الاتفاق وقتها أن يترك مبارك السلطة ، ومقابل عهد أمان له ولعائلته ولأمواله ، وكان ممثل المجلس العسكرى الحاكم فى الاتفاق هو الفريق سامى عنان كما قالت هيلارى كلينتون فى شهادتها المنشورة ، وقد كان الرجل رئيسا لأركان الجيش وقتها ، وموضع ثقة عظمى فى واشنطن ، وتدخل ملوك وأمراء البترول كطرف ضامن للاتفاق ، وكان حسين سالم قد خرج من مصر مع الأيام الأولى للثورة ، فيما ترك المجلس العسكرى رجل مبارك الأقوى ـ زكريا عزمى ـ فى منصبه رئيسا لديوان الرئاسة ، وذهب مبارك مع عائلته إلى قصره فى "شرم الشيخ" ، مستريحا إلى عهد الأمان الذى أخذه ، ومتفرغا ـ مع زوجته ونجليه ـ لإدارة أوسع عملية تهريب لتريليونات الجنيهات ، فيما تركوا لزكريا عزمى مهمة إحراق والتخلص من الوثائق والمستندات التى قد تدين ، واستمرت العملية على مدى ثلاثة شهور كاملة بعد خلع مبارك ، كان قد جرى فيها ترتيب كل شئ ، وإلى أن اضطر المجلس العسكرى لمسايرة غضب ملايين المتظاهرين فى ميدان التحرير ، وإحالة مبارك وعائلته ورجاله إلى المحاكمات التى تعرفون سيرتها ، وبما حول ما أسموه محاكمة القرن إلى "فضيحة القرن" ، فقد جرى إذلال مبارك حقا فى أقفاص الاتهام ، ولكن دون المقدرة على التوصل لدليل إدانة حاسم ، بسبب التلاعب عن عمد فى تكييف الاتهامات ، وخلو الملفات من وثائق جرى التخلص منها ، والمحصلة كانت كما تعرف ، خرج رجال مبارك من نوع زكريا عزمى وفتحى سرور من السجون أيام حكم الإخوان اللاحق لحكم المجلس العسكرى ، ثم جرت تبرئة مبارك وجنرالاته الأمنيين فى قضية قتل المتظاهرين ، وبدت القصة كلها عبثا فى عبث ، وإلى حد أن القاضى حسن الرشيدى الذى أبرأ مبارك ، صمم على أن يذكر فى ديباجة الحكم الصادم شهادته للتاريخ ، فقد قال القاضى أنه لم يجد قانونا يحاكم به مبارك على كوارث ثلاثين سنة فقر ونهب وفساد وتوريث وتخلف وقمع وانحطاط ، ولا تزال القضية ـ كما هو معروف ـ منظورة أمام محكمة النقض ، والتى أصدرت بدورها حكما صحيحا يتيما فى قضية سرقات القصور الرئاسية ، وأدانت المخلوع مع نجليه ، ووضعته حيث يستحق فى مزابل اللصوص ، ووصمته بصفة "الحرامى" بختم النسر ، وبحكم قضائى نهائى بات لا تعقيب عليه ، وما كاد الناس يحسنون الظن ، وتزيد آمالهم قليلا فى طلب العدالة ، ما كادوا يفعلون ويشعرون ، حتى عاجلتهم يد التواطؤ من جديد ، وصدرت تعديلات "التصالح" على قانون الكسب غير المشروع ، والذى روجوا لنواحى نفع مفترض فيه ، وقالوا أنه سيجلب مئات المليارات لخزانة الدولة الفارغة ، ثم تكشفت الحقائق سراعا ، فهو لا يكلف اللصوص سوى دفع ملاليم ، ومقابل رد اعتبارهم القانونى ، و"غسل" صحفهم الجنائية ، وتسهيل لحاقهم بالتريليونات المتحصلة من "غسل" الأموال فى "الأوف شورز" ، وهو ما يحدث الآن بالحرف فى موسم تكريم الفساد ، وفى سياق سياسى واقتصادى ، عادت به "فلول" حكم مبارك إلى دوائر التحكم والسلطة ، وتسلمت مفاتيح "الكرار" فوق مواقع القرار .


لكل هذه الأسباب وغيرها ، فلا يصح لأحد أن يتعجب من رد الفعل الرسمى البارد فى القاهرة على كشف "وثائق بنما" ، فهم يريدون أن تطوى الأوراق وتجف الصحف ، وأن تتحول القصة كلها إلى حواديت مسلية ، يبدون فيها غاية الإعجاب سرا بحيل عائلة مبارك فى إخفاء الأموال المنهوبة ، ويدعون فى الظاهر عزما على التحقيق ، ثم تعود "ريمة" إلى اسطواناتها القديمة ، ويحدثونك عن الفساد الذى هو من طبع الدنيا ، وعن العجز فى مواجهة ألاعيب الكبار ، وهم يعرفون ما نعرف ، وهو أن الجزء الأعظم من ثروة عائلة مبارك فى الحفظ والصون ، وبرعاية متفق عليها فى عواصم صديقة شقيقة ، وأن الجواب الشافى لن يظهر فى "وثائق بنما" على خطورتها ، بل فى وثائق القاهرة التى جرى التخفى بها ، والمسارعة بالتخلص منها ، وحتى لا تتكشف حقائق التواطؤ الرسمى مع اللصوص ، وهى الجريمة المتصلة حتى ساعة تاريخه .

 

تعليقات (1)
صدق الله العظيم
بواسطة: HESHAM FATHY
بتاريخ: الثلاثاء، 12 أبريل 2016 12:16 م

تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الارض و لا فسادا و العاقبة للمتقين

اضف تعليق