نهاية مبادرة السيسي

السبت، 18 يونيو 2016 11:08 م
نهاية مبادرة السيسي
عبد الحليم قنديل يكتب

التلاعب بكلمة "السلام" كالتلاعب بكلمة " الحرب " كلاهما لعب بالنار ، وقد يؤدى إلى كوارث يعلم الله – ويعلم الناس- مداها .
و" الحرب " ليست دائما شيئا مكروها ، ولا "السلام " كلمة لطيفة على الدوام ، وقد عشنا فى مصر زمن الحرب وزمن السلام ، ونهضنا صناعيا وحضاريا فى زمن الحروب التى فرضت علينا ، ولم تلحق بنا الهزيمة الحضارية الشاملة ، إلا فى الزمن الذى أسموه بالسلام ، وجعل حرب أكتوبر 1973 نهاية لكل الحروب .

وقد تنطوى القصة على مفارقة ظاهرة ، فأجيال من المصريين تذكر ما جرى مع مبادرة الرئيس السادات بالذهاب إلى القدس المحتلة نهاية 1977 ، وأحاديث السادات المسلية على مصاطب " كبير العائلة " ، وتبشيره بالرخاء القادم الزاحف مع السلام الإسرائيلى ، وووعده لكل أسرة مصرية فقيرة بفيلا وسيارة وحمام سباحة ، وبدا الكلام العبثى وقتها مما يغرى أفئدة عند الناس ، فقد كان من عينة كلام الليل " المدهون بزبدة " كما يقول المصريون ، ثم لم يطلع عليه النهار أبدا ، فقد ذهب السادات إلى مصيره قتلا على منصة العرض فى 6 أكتوبر 1981 ، وضاعت مصر معه ومن بعده ، ونزلت إلى " قعر القفة" فى سباق الأمم ، وخرجت من سباق التاريخ بالجملة ، وجرى تفكيك عناصر قوتها قطعة قطعة ، وانتهينا إلى انحطاط عظيم ، وإلى فساد أعظم نخر بدن الدولة ، وخلع ركائز قواعدها الإنتاجية ، وإلى رهن قراراها السياسى والاقتصادى لواشنطن راعية ما أسمى " معاهدة السلام" ، وإلى إعادة الوضع المصرى إلى ما قبل دولة محمد على ، وحيث تفشت سيطرة مماليك من نوع مختلف هذه المرة ، وإلى عائلة تحكم بالوكالة عن الأمريكيين والإسرائيليين ، وإلى مجتمع هجر لحظة العصر إلى سراديب التاريخ البعيد زهقا ورهقا ، وفضل انتظار الموت على مصاعب الحياة ، وهجر الجغرافيا المصرية إلى سبل الرزق الشحيح فى بلاد الآخرين ، وهو ما انتهى بالمجتمع – بعد الدولة – إلى وضع الأشباح ، وتحول المصريون إلى " غبار بشرى " ، حولنا هذا السلام الذليل إلى حفنة من غبار ، لم تجتمع ذراته إلا فى لحظة الخنق ، حيث انسدت سبل الهروب من المأساة المصرية ، وأحيط بالمصريين مع لحظة قصف العراق ، الذى كان أوسع وأيسر مهارب المصريين ، وهو ما يفسر مدار وتحولات القلق المصرى المعاصر ، والذى بدأت صحوته الكبرى مع قصف بغداد فى 20 و 21 مارس 2003 ، كانت لحظة إفاقة إلى المصائر ، فلم يعد للمصريين من مهرب سوى بلدهم الذى صار خرابة ، وهكذا ظهرت حركة "كفاية" وأخواتها ، ثم اجتماع القلق السياسى إلى القلق الاجتماعى الأوسع ، ومشاهد ثورة 25 يناير 2011 ، وما تلاها من حكم الإخوان ، وهبة عشرات الملايين فى 30 يونيو 2013 ، ودون أن تستقر النجوم فى مداراتها ، ولا أن تنتصر الثورة اليتيمة ، والتى لم يقدر لها أن تصل لحكم مصر حتى ساعة تاريخه ، ولا حتى أن تمتلك حزبا سياسيا قادرا على الانتقال بها من الميدان إلى البرلمان .

نعم ، فى مصر الآن دراما هائلة ، تتوالى فصولها ، وتسكن حينا لتثور أحيانا ، ودون أن تصل لشاطئ ختام مريح ومستريح ، ولا إلى قناعات سارية مؤثرة عن صورة المستقبل فى لحظة ضبابية ، اللهم إلا بمنطق رفض الذى جرى تجريبه من قبل ، فالناس لا يريدون عودة لحكم الإخوان ، تماما كما يرفضون عودة حكم مبارك فى صورة مموهة ، ولم تعد لديهم أوهام عن السلام الذى ذهب إليه السادات ، وبرغم أن مصر ـ رسميا ـ هى أول دولة عربية وقعت على معاهدة سلام مع إسرائيل ، فإن الشعب المصرى هو الأبعد عن أى معنى لتقبل السلام المسموم ، والشعب المصرى هو أكثر الشعوب العربية كراهية لكيان الاغتصاب الإسرائيلى ، وأكثر الشعوب رفضا لأى "تطبيع" مع إسرائيل ، فلا يزال التطبيع ـ إلى الآن ـ تهمة سالبة لشرف من يرتكب جرمها ، وأيا كانت صفته ، وسواء كان رجل أعمال أو رجل دين أو رجل سياسة ، وكان الموقف الرافض للتطبيع مصاحبا على الدوام لسيرة القلق ورغبات التغيير ، ولن ينسى أحد مشاهد حرق الشباب المصرى بعد الثورة لسفارة العدو الإسرائيلى فى القاهرة ، ومن وقتها ، لم تستطع إسرائيل أبدا العثور على مقر آخر لسفارتها ، وصار منزل السفير – مخبأ فى حى المعادى – هو مقر سفارته فى ذات الوقت ، وتنصلت السلطات المصرية من تحمل عبء البحث لإسرائيل عن مقر سفارة جديد بعد المقر المحترق ، ولم تعد من قناة تواصل مع إسرائيل إلا عبر جهاز أمنى مصرى معروف ، هو نفسه الجهاز الذى يتواصل مع قيادات حركة "حماس" فى قطاع غزة .

ولم يكن انكماش " التطبيع العلنى" هو وحده الذى استجد بعد الثورة ، ولا احتراق سفارة العدو إلى غير رجعة ، بل كانت حركة الجيش مصاحبة لحركة الشعب ، فى تقليص معانى التسليم بكوارث المعاهدة وقيودها ، فقد نصت الملاحق الأمنية للمعاهدة على مناطق نزع السلاح فى سيناء ، وحصرت الوجود الفعال للجيش المصرى فى المنطقة (أ) ، وبقوة قوامها فرقة مشاة ميكانيكية واحدة – 22 ألف جندى – إلى مسافة 59 كيلو مترا شرق قناة السويس وغرب "خط المضايق " الحاكم ، والسماح فقط بأربع كتائب حرس حدود – 4000 جندى – فى المنطقة (ب) ، والتى يمتد عرضها إلى 109 كيلو مترات فى قلب سيناء ، وقصر الوجود المصرى على الشرطة لا الجيش فى المنطقة (ج) ، والممتدة بعرض أقله 33 كيلومترا شرق سيناء ، مع حظر المطارات والموانى الحربية المصرية فى سيناء كلها ، ولم يجرؤ المخلوع مبارك على تغيير موطأ قدم لجندى فى سيناء ، وهو ما تغير كليا الآن ، وفيما يشبه الانقلاب العسكرى على المعاهدة كلها ، ودهس مناطق نزع السلاح بالجملة ، ومد حضور الجيش المصرى بكامل هيئته حتى خط الحدود المصرية التاريخية مع فلسطين المحتلة ، صحيح أن كل ذلك جرى بعلم اسرائيل ، وبموافقاتها المسبقة من خلال قناة الاتصال الأمنية التى ظلت مفتوحة ، لكن المحصلة مختلفة فى المغزى ، فقد جرى فرض أمر عسكرى واقع ، لن يعود عنه الجيش المصرى أبدا ، خصوصا أنه تم فى سياق سياسى مختلف ، انتهت فيه سيرة علاقة التبعية المصرية الخاصة مع واشنطن ، وكسبت مصر فيه جوانب معتبرة من استقلالها الوطنى الذى كان مضيعا ، وشهد فيه الجيش ثورة هائلة فى موارد تسليحه وصناعاته الحربية ، وتغيرت معادلات القوة ، فهذه أول مرة تتحرر فيها سيناء فعليا لا صوريا ، وهذه أول مرة يعود فيها الجيش المصرى إلى حدود فلسطين منذ ما قبل هزيمة 1967 .

ماذا يعنى هذا كله ؟ ، يعنى ببساطة أن مصر تعيد عمليا كسب نفسها وأرضها وجيشها وحرية قرارها ، وتتخلص تدريجيا من قيود فرضت عليها فيما اسمى بمعاهدة السلام ، وتجهد لبناء حلف عسكرى عربى وقوة مشتركة ، يكون الجيش المصرى قاعدتها ونواتها الصلبة ، وهى فكرة تعارضها وتعرقلها دول عربية رجعية ، أدمنت دفع تكاليف الحماية الأمريكية ، وتريد توريط مصر فى مبادرات سلام جديدة مع إسرائيل ، وبدعوى إعطاء الأولوية لمواجهة الخطر الإيرانى ، وقد بدت السياسة المصرية حذرة فى القصة كلها ، وإن بدت لها مصلحة موقوتة فى ممارسة نوع من العلاقات العامة ، مدفوعة برغبة فى تخفيف عبء التعويض الدولى المحكوم به لإسرائيل بعد وقف تصدير الغاز المصرى ، وبالتوتر المحسوس فى علاقات القاهرة مع واشنطن ، وهو بعض ما دفع الرئيس السيسى إلى إعلان مبادرة نوايا سلمية فى أسيوط ، تواقتت مع طرح المبادرة الفرنسية ، ومع إعادة تأكيد أطراف عربية معنية على ما أسمى "مبادرة السلام العربية" المعلنة منذ قمة 2002 ، وبدا السيسى فى مبادرة أسيوط ، كأنه يعيد إرتداء جلباب السادات ، وبدت ردود الفعل المباشرة وقتها ، كأنها تمهد لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية برعاية ومشاركة مصرية ، وقد تتضمن قمة ثلاثية لنتنياهو وعباس والسيسى فى القاهرة ، وطبيعى أن ذلك كله مما يسعد إسرائيل ونتنياهو ، فهو يسعى إلى كسب تطبيع مصرى وعربى شامل مع إسرائيل دون التزام بإعادة الأرض المحتلة ، وهو ما قاله نتنياهو بوضوح فى لقاء أخير جمعه مع وزراء حزبه "الليكود" ، وأغلق به الطريق على مبادرة السيسى ، وأثبت للرئيس المصرى خطورة لعبة العلاقات العامة ، أو التلاعب بكلمة "السلام" فى غير موضع ، أو الولع بإعادة ارتداء جلباب السادات ، فأى لقاء للسيسى مع نتنياهو سيكون خطيئة سياسية كبرى ، خاصة أن السيسى تعهد ـ وقت ترشحه ـ بعدم لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلى إلا بعد إقامة دولة فلسطينية مستقلة ، وهو هدف لن يتحقق فى مدى منظور ، من الأفضل أن تركز فيه مصر على التخلص من القيود المذلة لما يسمى "معاهدة السلام" ، وألا تتورط من جديد فى صناعة المآسى لنفسها ولأمتها ، وعلى نحو ما جرى فى أربعين سنة خلت .
[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق