نهاية 30 يونيو

الخميس، 07 يوليو 2016 01:26 م
نهاية 30 يونيو
عبد الحليم قنديل يكتب

ليس بالتمنيات ـ وحدها ـ يكتب تاريخ الأمم، وقد كان 30 يونيو 2013 واحدا من أيام التاريخ الكبرى فى مصر، وتدفقت فيه عشرات الملايين من المصريين إلى الشارع، وطويت صفحة حكم الإخوان القصير العمر، فقد كان الأمر انقضى، ولم تبق سوى تفاصيل من نوع ما جرى بعدها فى 3 يوليو، وأيا كانت توصيفاته، فقد كان الطريق قد أغلق على التطور السلمى السلس، ولم يستمع الإخوان إلى أى نصيحة أو تحذير، وأذكر أننى وجهت نداء على الهواء قبل أسابيع طويلة من 30 يونيو، ودعوت الرئيس ـ وقتها ـ محمد مرسى أن يتخذ قراره الأخير، وأن يدعو فورا إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وقلت له بوضوح أن الوقت ينفد بسرعة، وقد يكون بيدهـ وقتها ـ فرصة اتخاذ قرار، وقبل أن يصبح هو نفسه موضعا لقرارلايرد، ولم يلق النداء سوى الرفض المتعنت، وكان ما كان.

المهم، أن صفحة حكم الإخوان طويت، وأعقبتها صفحات من دماء، وصفحات سياسة وحكم معروفة لكل الناس، حكم انتقالى لمدة أقل من سنة، كان الرئيس المؤقت فيها عدلى منصور بصفته رئيس المحكمة الدستورية، تم التعديل الموسع الشامل للدستور المستفتى عليه فى يناير 2014، وانتخاب عبد الفتاح السيسى رئيسا فى أواسط العام نفسه، وبدء حكم جديد، تراكم حصاده فى عامين إلى الآن، وكان تلخيصنا لجوهر وقائعه فى عبارة "إنجاز هائل وفساد مهول"، وإن كان التلخيص لا يغلق الباب على جراح أخرى دامية ، فقد جرى دهس الحريات العامة، وامتلأت السجون بعشرات الألوف من المعتقلين أو المحتجزين السياسيين، إضافة لدماء كثيرة سالت، سواء فى صدام فض اعتصام ميدان "رابعة"، أو فى وقائع الحرب المتصلة ضد جماعات الإرهاب، والتى احتدمت بالذات فى "مثلث الرعب" أقصى شمال شرق سيناء، وقد كانت فاتورة الدم ثقيلة، وكلفت المصريين بضعة آلاف من أرواح بنيهم ، وإن كانت التكلفة فى الحد الأدنى مما جرى ويجرى فى المنطقة، فلم تنزلق مصر أبدا إلى حرب أهلية، ولم يحدث لها ما جرى فى أقطار عربية إلى مشرقها ومغربها، وفى دول جوار كانت مستقرة وقوية اقتصاديا كتركيا التى ناهضت وحاربت حكم السيسى، لكن أحوال السلامة العامة البادية فى مصر، لا تعنى ولا تجيز إغلاق ملفات الدم، فقد لا يأسى بلد ـ بل يفتخر ـ على شهدائه فى الحروب العادلة لتصفية جماعات الإرهاب، ومصر قادرة فى كل الأحوال على هزيمة الإرهاب، لكن الضمير الوطنى الجمعى لا يبدو مستريحا تماما، ويبدو مؤرقا بصدد وقائع دم أخرى، هى بطبيعتها بنت الصراع السياسى، وكما جرى ـ مثلا ـ فى فض اعتصامى ميدانى "رابعة" و"النهضة"، ودون تحقيق جدى لمعرفة ما جرى بالضبط، ولا إجراء محاكمات عادلة تقتص للدم المراق، ولا حتى "جبر ضرر" الضحايا وأسرهم، كما أوصى تقرير لجنة تقصى الحقائق برئاسة القاضى الدولى فؤاد رياض، وكما يوجب الدستور نفسه فى نص المادة (241) الخاصة بالعدالة الإنتقالية ، فلا تصح التفرقة فى الدم عقلا ولا دينا، ودم المصريين المسالمين كله حرام، وقد طالبنا ـ


ونطالب ـ بجبر ضرر شامل لكل ضحايا الصراع السياسى منذ ثورة 25 يناير 2011 وإلى اليوم، ودون استثناء ولا تمييز سياسى، ودون تفرقة بين دم الإخوان ودم غيرهم، اللهم إلا فى حالات التلبس بالإرهاب الصريح الدموى المباشر، ورفع السلاح الذى يوجب العقاب بالسلاح، وتطبيق المعنى نفسه فى حالات الاحتجاز أو الاعتقال السياسى، وإخلاء سبيل عشرات الألوف من المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب المباشر، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وبينها قانون التظاهر المطعون عليه دستوريا، والذى تتلكأ السلطات فى تعديله، وإلغاء عقوبات الحبس فيه.


وإزالة المظالم وإغلاق ملفات الدم، لا تعنى بالضرورة وفاء بمطالب وأحلام الناس المنتفضين فى 30 يونيو 2013 ، فقد خرج الناس وقتها رفضا لحكم الإخوان، وتشابكت إرادة الناس مع إرادة قطاعات فى الدولة، وكان ما كان، مما لا يريد أحد العودة إلى ما قبله ، فالناس لا يريدون أبدا عودة إلى حكم الإخوان، لكنهم لا يستريحون إلى أغلب ما جرى فى ثلاث سنوات بعد 30 يونيو، وتتناوشهم مشاعر خيبة الأمل فيما يجرى الآن، فلم يحلم الناس فى ثورة 25 يناير 2011 بحكم الإخوان على النحو الذى جرى، ولا رغبوا ولا تصوروا أن يعود "الفلول" من جماعة المخلوع مبارك، ولا من أشباههم إلى الحكم بعد 30 يونيو، فليس عدلا أن ينتحل الإخوان صفة 25 يناير، ولا أن تنتحل الفلول صفة 30 يونيو، وأن يدهس الشعب صاحب الثورة فى الحالتين، وكما كان غضب الناس عظيما من حكم الإخوان، فإن الغضب المكبوت هو حال الناس الآن، فلم تعد للرئيس السيسى ذات الشعبية الهائلة التى أتى بها ، لكن الشعبية التى تذهب عن السيسى، لا تذهب إلى أحد غيره إلى الآن، وربما يفسر ذلك حال الركود التى تبدو عليها السياسة المصرية، فالغضب المكبوت لا يتحول إلى ثورة، ولا إلى بوادر ثورة وشيكة، ربما بسبب "صدة النفس" من وجود بقايا الإخوان فى خلفية الصورة، وعلى حوافها المعتمة، فوق أن السياسة كطريق إصلاح بديل عن الثورة ، تبدو هى الأخرى مأزومة خلقيا، بسبب تخلف قوى الثورة عن بناء حزب سياسى قادر، وبسبب القيود التى يفرضها تحالف مرئى بين "جماعة الأمن" و"جماعة البيزنس"، وهو التحالف الأسود الذى يملأ فراغ السياسة بالمقاولات، ويستولى على "المينى برلمان" المنتخب من "مينى شعب"، ويستعد لتكرار التجربة ذاتها فى انتخابات المحليات الوشيكة، والمحصلة هى انسداد الأفق، وضياع المكاسب التى انطوت عليها نصوص الدستور الجديد ، والتراجع فى معدلات شعبية الرئيس السيسى، والذى يحكم استنادا إلى قوة الجيش وانضباطه وكفاءته، ويستعين بهيئاته لتحقيق إنجازات تبدو طفرية، لكنها ـ أى الإنجازات ـ بعيدة عن العين والقلب، ولا تؤثر مباشرة فى حياة الناس بطبع "البنية الأساسية" الغالب عليها، فيما لايجد الناس فى حياتهم اليومية إلا جحيما متصلا ، فى أوضاع الاقتصاد بالذات، مع إغراق البلد فى الديون، ومع تدهور قيمة الجنيه وجنون المضاربات على الدولار، ومع تضاعف معدلات تزايد الغلاء كل صباح ومساء، والفساد المتفشى فى دواوين الحكومة والجهاز الإدارى والأمنى، وتحيز قرارات حكم السيسى وحكوماته ضد الفقراء والطبقات الوسطى، وتواصل خطة خفض دعم الدولة للطاقة والاحتياجات الأساسية، فقد لا ينكر الناس توافر إمدادات الكهرباء بفضل تطوير وتجديد وإضافة محطات الطاقة، لكن أسعار الكهرباء والمياه زادت مرات، ومرشحة للزيادة أكثر مع جنون الغلاء اليومى فى أسعار السلع الضرورية، وتآكل القيمة الفعلية للأجور المنخفضة أصلا، مع تفاقم معدلات الفقر والبطالة والعنوسة والمرض والفساد، وكلها ـ مع غيرهاـ


أمارات على صدق شعور الناس بالعودة إلى الخلف، وعودة التسلط إلى اختيارات مرفوضة، قامت الثورة ضدها، وعودة الفلول إلى التحكم تحت عباءة السيسى، والذى تبدو سياسته الخارجية والوطنية منضبطة، بينما تسود الفوضى فى الاختيارات الداخلية، فلا شئ يبدو حيا سوى الإنجازات المدعومة من الجيش، بينما تترك بقية أجهزة الدولة على عفنها الموروث من أيام المخلوع مبارك، ويزداد الأغنياء ثراء، ويزداد الفقراء تعاسة، فى بلد يعانى أفدح اختلالات توزيع الثروة، فواحد بالمئة من الناس يملكون نصف إجمالى الثروة، وتسعة بالمئة يملكون الربع، بينما لا يتبقى لتسعين بالمئة من المصريين سوى ربع الثروة الباقى، ودون أن تجرى إصلاحات من أى نوع ، ولا مبادرة حقيقية لكنس إمبراطورية الفساد التى تحكم وتعظ، ولا الإقرار بالحد الأدنى من العدالة وتوزيع الأعباء، ولا الأخذ "من كل برغوت على قد دمه" كما يقول المثل الشعبى المصرى، بل يجرى التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، ولا يجرى الأخذ بالضرائب التصاعدية المعمول بها فى رأسماليات الدنيا كلها، بل يتم تخفيض الضرائب على الأغنياء، برغم الأزمة الاقتصادية المخيفة، وإلغاء الضريبة الاجتماعية وضرائب البورصة، وخفض الحد الأقصى للضرائب إلى 5.22% لاغير، فوق أحمال الفساد المضافة بالتهرب من الضرائب والتهرب من الجمارك، ثم لا يكون من حل عند الحكم سوى إلغاء الدعم وإشعال الأسعار، وتحويل حياة الفقراء والطبقات الوسطى إلى جحيم لا يحتمل، وهذا هو الخطر الاجتماعى الذى يهدد بنسف ما جرى بعد 30 يونيو 2013 وإلى الآن، وإنهاء سيرته، ما لم يجر إصلاح جذرى عاجل توقيا للطوفان، إنه غضب المجتمع القادم بعد إغلاق السبل على غضب السياسة وثوراتها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق