تحيا "شبه" الدولة الفاشلة

الأحد، 31 يوليو 2016 05:09 م
تحيا "شبه" الدولة الفاشلة
عبد الفتاح علي


عندما عجزت الدولة عن تنظيم سوق العقارات، تحول إلى مخزن للقيمة، بعيدا عن القانون، والضرائب، والانشطة النظامية، فتكالب الجميع، بمختلف الفئات، للحفاظ على قيمة النقود بوضعها في العقارات، بداية من نهاية 2003 بعد تدفق الاشقاء العراقيين إلى مصر وحتى اندلاع ثورة 25 يناير، فارتفعت القيمة بشكل غير حقيقي، وغير واقعي.
وبدلا من أن تتدخل الدولة لتنظم هذا السوق الذي يبتلع ترليونات من الجنيهات، زادت الطين بلة، عندما دخلت لتزايد هي الأخرى على السعر، وأصبح الوزير الأقرب للبقاء على كرسيه هو الوزير الذي يبيع أراضي أكثر، في مزادات حولت البلاد إلى راقصة استربتيز.
ولأن لكل نظام عاجز نهاية، هوى نظام الاستبرتيز، وبقى رجال الأعمال الذين كانوا يدفعون أكثر ليتعرى النظام أكثر، ولما سقط النظام العقاري في مصر، عجزت الحكومة عن مجاراة المضاربة على العقارات، فتحول الناس إلى البديل الذي يمنح ربحا رهيبا في زمن قياسي... تحولوا إلى تخزين الدولار.
كان من الممكن أن تتلافى الحكومة هذا الأمر قبل سنتين، بالتدخل لتنظيم سوق الصرافة، ونصحناها قبل أشهر بـأن تدفع البنوك الحكومية والمشتركة، للدخول في سوق الصرافة عن طريق إنشاء شركات صرافة تملك حصة قوية ومؤثرة في هذا السوق تتراوح ما بين 15 – 20%، لكن محافظ البنك المركزي تعامل مع الأزمة بغرور النظام السابق، وبجهل النظام السابق، وقصر نظر النظام السابق، لأنه ابن من أبناء النظام السابق المخلصين، وتلميذ أحد أعمدة النظام السابق المخضرمين الذي ساهم في تفريغ الاحتياطي النقدي المصري من العملة الصعبة بقرارات في منتهى الفشل..
لكن وكما عجزت الحكومات عن إدارة سوق العقارات، نجحت بامتياز في الفشل في إدارة سوق الصرف، وبدء الجنيه يهوى فاشتعلت الأسعار، وباتت النقود التي بين يدي أصحابها بلا قيمة كلما مرت عليها الساعات، فحدث ما لا يمكن لأي حكومة أن تواجهه.
تحول الدولار إلى مخزن للقيمة عند المصريين، لا أتحدث عن المضاربين، ولا عن تجار السوق السوداء، ولا عن تواطئ بنوك كبيرة في لعبة الدولار، ولا عن معلومات تسرب لرجال أعمال للاقتراض بالجنيه المصري لشراء أكبر كمية من الدولار، وبيعه بعد رفع سعره الرسمي، أو بيعه في السوق السوداء عند قمة التعطش.
بل أتحدث عن مواطنين عاديين، أخذوا قرار الادخار بالعملة الصعبة، وتخزين الدولار لا بغرض المضاربة، ولا بغرض إحراج الحكومة، ولا بغرض التجارة غير المشروعة، بل لمجرد الحفاظ على ما تبقى من قيمة في نقودهم التي باتت تتسرسب من بين أصابعهم.
أتحدث عن شباب يبحثون الآن عن مصادر صغيرة للدولار ، مثل الطلبة الوافدين، أو الموظفين الأجانب، أو أهالي العاملين بالخارج، ويشترون الدولار منهم لتخزينه والحفاظ على قيمة مدخراتهم.
هؤلاء الشباب باتوا يشترون بمرتباتهم الدولار أول كل شهر، ثم يقومون ببيع الدولار بالتجزئة بكميات صغيرة تصل إلى عشرين وخمسين دولارا كلما احتاجوا إلى دفع فواتير أو تسديد التزامات، أحدهم ذهب في الصباح إلى مكتب صرافة وسأله عن السعر فقال له 12.25 فرفض، ولما عاد إليه بعد أن أنهى عمله فوجده بـ 12.75 فباع خمسون دولارا فقط، يعني في أقل من سبع ساعات، زادت نقوده ما يقارب 25 جنيها، كفيله بأن يشتري لأبناءه الصغار عشاء يومهم.
أضرب المثال فقط بحالة صغيرة جدا تتكرر على نطاق واسع، ومثلها آلاف الحالات بدرجات متفاوتة، أعلى في القيمة، وأكبر في نسبة التخزين.
هولاء الشباب زادوا بكثرة في الفترة الماضية، وبدلا من مرتبهم بالجنيه المصري الذي لم يعد يكفيهم لنهاية الشهر، بهذه الطريقة أصبحوا يدخرون ما يقرب من عشرين إلى مائة دولار في الشهر، يتم تخزينه، وعدم الاقتراب منه، وهو أخطر ما في المسألة، لأنها دولارات "سكة اللي يروح ما يرجعش"، دولارات لا تدخل ماكينة السوق، عملة صعبة خارج حسابات البنك المركزي.
قطاع آخر من الناس وهم التجار دخلوا اللعبة ، لكن بدرجة أكبر، لأن لديهم "خميرة" مالية كبيرة جدا، ولديهم قدرة على التواصل مع شركات الصرافة.
مثل تجار العقارات كانوا قبل الثورة يربحون ما بين 20 – 100 ألف جنيه يوميا، وبعد الثورة بات الرقم نفسه يتحقق بالكاد شهريا، أحدهم كان قد اشترى شقة سكنية بـ350 ألف جنيه، وكان يسعى لبيعها بـ 400 ألف جنيه، لكن السوق العقاري أصيب بالسكتة القلبية، فقرر أن يطرحها بـ 380 ألف جنيه فقط، لكن أسرع مشترى كان في يده 360 ألفا فقط، فوافق التاجر عن الرقم، وأخذ المبلغ وذهب ليشتري به دولارا.
كان هذا الموقف قبيل رمضان بأيام معدودة، وكان سعر السوق السوداء وقتها 10.25، وبعد أقل من شهرين وتحديدا يوم الأحد بلغ سعر الدولار في السوق السوداء 12.75، فربح التاجر دون مجهود 87 ألف جنيه.
ما أتحدث عنها ليس حالات استثنائية، ولا مغامرات فردية، بل أتحدث عن ظاهرة عامة، بدأت في التفشي، ورئيس الحكومة ومحافظ البنك المركزي في غيبوبة، لا يملكون حتى مجرد نصح الرئيس بمعلومة مفيدة.
ما يفعله تجار العقارات، فعله تجار آخرون في مناطق مختلفة، أغلبهم سيخفض اهتمامه بتجارته، مقابل تركيز على عمليات شراء وتخزين الدولار.
لا أملك أرقاما دقيقة، ولا حصرا لتجار يعيشون خارج حسابات الحكومة، لكن من لا يرى الكارثة القادمة فهو ورئيس الحكومة ومحافظ البنك المركزي سواء.
بعض الأرقام تقول أن حجم عمليات الاستيراد في مصر وصلت إلى 100 مليار دولار وفقا لتصرحات أحمد شيحة رئيس شعبة المستوردين في برنامج 360 درجة، وحجم تجارة الدولار في السوق السوداء بلغ قرابة 50 مليار دولار وفقا لجريدة الوطن على لسان مصادر خاصة.
لكن وفقا لتصريحات محافظ البنك لمركزي طارق عامر عقب اجتماعه بالرئيس هذا الشهر (يوليو) فإن الاحتياطي النقدي بلغ 17.5 مليار دولار، أي أقل من نصف حجم تجارة السوق السوداء، وأقل من ربع حجم عمليات الاستيراد، وأقل من ربع الديون الخارجية وأقل من 7% من الدين الداخلي.
وإذا كانت الأرقام السابقة لا توضح الفشل، سأزيدكم أرقاما، علها تقرب المسافات، وتجلى الصورة أكثر، فمثلا استقال محافظ البنك المركزي الأسبق فاروق العقدة الذي خدم نظام مبارك ثمان سنوات تقريبا والمجلس العسكري سنة، ونظام الاخوان ستة أشهر، ترك سعر صرف الدولار الرسمي 699 قرشا، والسوق السوداء 725 قرشا، وتبقى من الاحتياطي النقدي ما يقرب من 13.6 مليار دولار، بعد أن بلغ في عهده بنهاية 2010 36 مليار دولار، يعني فقد ما يقرب من 22.4 مليار دولار بأريحية متناهية.
ثم سلم الراية لتلميذه النجيب هشام رامز كمحافظ للمركزي، وبعد عام ونصف تقريبا وتحديدا في نهاية نوفمبر 2015 كان سعر صرف الدولار السمي 783 قرشا والسوق السوداء 810 قرشا والاحتياطي 16.4 مليار دولار، ثم منح الراية لتلميذ العقدة المدلل طارق عامر، حتى بلغ في عهده سعر الدولار الرسمي 888 قرشا وفي السوق السوداء 1310 قروش، بينما الاحتياطي ارتفع إلى 17.5 مليار دولار.
في تاريخ مصر القديم والحديث، لم يصل الفارق بين السعر الرسمي والسوق السوداء إلى هذا الفارق البشع، لكنه سيسجل في موسوعة جينيز للأرقام القياسية للفشل، ويحفر اسم طارق عامر بحروف من نار فيها.
واذا كانت الدولة تدار الان بلغة المقاولين، فإن العبرة ليس بامتلاك المعدات، لكن العبرة بتشغيل المعدات، لذا أقول لمحافظ البنك المركزي ومن قبله رئيس الحكومة ومن قبله رئيس الجمهورية، ليست العبرة بحجم الاحتياطي النقدي، ولا بحجم أعمال الانشاءات التي تجري في كل مكان، ولكن العبرة بالسيطرة على الدولة، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا والاهم من كل هذا اجتماعيا.
اذا بقى الحال على ما هو عليه، رئيس حكومة عبقري في الفشل، ورئيس بنك مركزي متخبط مغرور، ورئيس دولة لا يسيطر على اقتصاد بلاده، سيتحول الدولار من مجرد مخزن للقيمة، إلى أداة نقدية، وسيصبح التعامل بناء عليه في التجارة بين الناس، وسيطالب الموظفين أن يحصلوا على مرتباتهم بالدولار أو باليورو، ووقتها سيكون الجنيه المصري مساويا للقيمة مع الليرة اللبنانية.
أرجو ألا نندهش، ففي دول فاشلة كثيرة أراحت نفسها، وجعلت الدولار العملة الرسمية، أو على الأقل العملة شبة الرسمية، بأن يساوي الدولار قيمة العملة الوطنية، ونوفر الجهد والمشقة على الناس من الذهاب إلى شركات الصرافة لتغيير الدولار أو شراؤه، ويكون بامكان أي مواطن أن يشتري من أكشاك السجائر ما يريد ويدفع بالدولار، وسنحكي لأبنائنا الصغار يوما، أنه كان لدينا يوما عملة اسمها الجنيه.
ملحوظة: المقال وفقا لسعر الدولار مساء الاحد.24 /7 / 2016

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة