العلاقات الإخوانية البريطانية.. تاريخ من التخابر ضد مصر

العلاقة المشبوهة بين الإخوان وانجلترا تعود إلى عام 1942، إذ كشفت أحد تقرير للمخابرات البريطانية عن توجه الملك فاروق في هذا التاريخ إلى استغلال الإخوان ورعايتهم ضد الأحزاب العلمانية والمدنية، ومن هنا بدأ تمويل الجماعة من قبل الاحتلال والقصر.

وفي الفترة منذ نشأة الجماعة في العشرينات وحتى الأربعينيات كانت بريطانيا تتبنى سياسة قمعية ضد الإخوان، علاوة على إشعال الخلافات الداخلية خاصة عندما وقفت بجوار أحمد السكري غريم حسن البنا في خلافهما على منهج الجماعة. في نفس الوقت كانت جماعة الإخوان تطرح نفسها على بريطانيا والولايات المتحدة كورقة بديلة عن الأحزاب المدنية في المجتمعات العربية ليبدأ التحول في سياسات بريطانيا في بداية الأربعينات.

جاء أول اتصال مباشر بين مسئولين بريطانيين وقيادات إخوانية في 1941، وقتها كان لدى السلطات البريطانية تقارير تفيد بتخطيط الإخوان لعمليات ضد المحتل البريطاني، فقررت بريطانيا أن تستخدم سياسة التعاون مع الإخوان، بحيث تتفادى خطرهم. وكانت بريطانيا تتوقع موافقة حسن البنا على عرضها معتمدة في ذلك على الهدوء النسبي للجماعة والذي يسمى الآن بـ"البراجماتية".

بداية التعاون
بدأ التمويل البريطاني لجماعة الإخوان في عام 1942. وكانت البداية في يوم 18 مايو، حيث عقد اجتماع لرئيس الوزراء المصري آنذاك أمين عثمان مع ممثلين عن السفارة البريطانية واتفقا على خطة التعامل مع الإخوان. وجاء فيها ان تسحب الحكومة المصرية دعمها للأحزاب العلمانية والمدنية مثل الوفد وتوجهه إلى الإخوان على أن تطلب الحكومة مقابل ذلك مساعدات من السلطات البريطانية.
كما تعهد "عثمان" خلال الاجتماع الذي وصف الإخوان بـ"تنظيم ظلامي ديني" بأن تقوم الجماعة على تجنيد عناصر من داخل الجماعة للتعرف على أخبارها ومحاولة إحداث انقسامات داخلية عبر استغلال الخلاف القائم بين "البنا" و"السكري". وفي المقابل تعهدت السفارة بتسليم الحكومة المصرية قائمة بأسماء أخطر الشخصيات الإخوانية.

في الفترة قبل الحرب العالمية وتحديدًا في عام 1944، وصفت لجنة الاستخبارات السياسية في بريطانيا جماعة الإخوان باعتبارها خطرا قائما لمصالحها، معتبرة إمكانية سقوطها سهل لـ"الشخصية الضعيفة" لـ"البنا".

وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان لدى بريطانيا خبرة كبيرة بالإخوان، إذ كانت تدرك إنها قوى ظلامية ومعادية لكنها الوحيدة المتاحة لتنفيذ التعاون معها.

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية كان للإخوان وزن كبير يضاهي وزن حزب الوفد، ما زود احتياج بريطانيا والقصر لهم، من جانبها كانت الجماعة مستمرة في مد القصر بمعلومات عن الشيوعيين. إلا أن هذا الوضع لم يستمر عندما حدثت مواجهات بين بريطانيا وتيار العنف داخل الإخوان الذي أصر على ضرورة إقامة دولة إسلامية في مصر.

وفي الفترة ما بين 1945 إلى 1948 نفذ الإخوان عمليات اغتيال ضد مجموعة من الشخصيات السياسية، فتم اغتيال رئيس البوليس السري وعدة وزراء، وفي ديسمبر 1948 استطاعت السلطات المصرية اكتشاف مخابئ أسلحة تابعة للإخوان كانت جاهزة لقلب نظام الحكم، الأمر الذي جعل بريطانيا تطلب من الحكومة المصرية تضييق الخناق على أنشطة الجماعة المعادية لها، فأصدرت الحكومة المصرية قرارا بحل جماعة الإخوان في ديسمبر 1948، ولكن بعد قرار الحل بثلاثة أسابيع، تم اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، على يد أحد أعضاء الجهاز السري للجماعة، وهو نفس الجهاز الذي نفذ هجمات بالقنابل ضد البريطانيين في منطقة القناة.

وكرد فعل عنيف طلبت السفارة البريطانية من مصر تضيق الخناق على الإخوان فكان القبض على 100 إخواني بعدها بفترة وجيزة وقع اغتيال حسن البنا، الأمر الذي زاد من غضب انصاره الذين تعاملوا معه كشهيد.

"ناصر" في وجه "الهضيبي" والإنجليز
مع انتخاب حسن الهضيبي مرشد ثان للجماعة عادت الاجتماعات بين الإخوان والبريطانيين، وكان ذلك بالتزامن مع ثورة يوليو. فكانت بريطانيا حريصة على معرفة رأي الإخوان في مفاوضات الجلاء باعتبار أنهم جزء من الرأي العام. وأصرت بريطانيا على حضور الإخوان المفاوضات الأمر الذي رفضته الحكومة المصرية ووصفت اجتماعات الإنجليز والإخوان طعنة في ظهر الثورة المصرية.

تصاعد الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر بعد اتهامات الأخير للإخوان برفض سياسات الإصلاح الزراعي ومحاولة تخريب الجيش، لاسيما المواجهات العنيفة التي شهدتها النقابات والجامعات بين أنصار الجماعة وأنصار الدولة، وتزامن مع ذلك التقارب الإخواني البريطاني، إلى أن جاء حادث "المنشية" التي حاول أحد الأجنحة العسكرية للجماعة فيها اغتيال عبد الناصر.

بعدها تم إلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة، في حين هرب بعضهم خارج البلاد، وفي اليوم التالي لحادث الاغتيال، بعث رئيس الوزراء ونستون تشرشل رسالة شخصية لعبد الناصر قائلا: "أهنئكم على هروبك من الهجوم الغادر، الذي استهدف حياتك في الاسكندرية مساء أمس"، ومع ذلك، فإن البريطانيين تآمروا مرة أخرى مع الإخوان لتحقيق نفس الهدف باغتيال ناصر.

في عامي 1955 و1956 ساند عبد الناصر العديد من الحركات التحررية ضد الاستعمار، خاصة في البلاد العربية، الأمر الذي كان بمثابة إعلان ناصر للعداء لبريطانيا وفرنسا والدول الكبرى في ذلك الوقت، وفي وقت نفسه كان المسؤولون البريطانيون يقومون برصد دقيق لأنشطة جماعة الإخوان المناهضة للنظام، والتي أدركت أن الجماعة أصبحت تشكل تحديا خطيرا لعبد الناصر، فقام الملك حسين بإعطاء قادة الإخوان جوازات سفر دبلوماسية لتسهيل تحركاتهم لتنظيم عبد الناصر، في حين قدمت المملكة العربية السعودية التمويل والدعم الللازمين للإخوان، جاء ذلك وفقا لتقرير روبرت باير ضابط وكالة المخابرات المركزية السابق.

ومع انتهاء حكم ناصر وقدوم السادات رحب الأخير بهم في المشهد فعاشت الجماعة حالة انتعاشه لكنها لجأت إلى بريطانيا مجددًا في فترة التسعينات. وفي مقابلة صحفية أجراها الدكتور كمال الهلباوي (أحد أبرز قيادات جماعة الإخوان في لندن في فترة التسعينيات) مع صحيفة الشرق الأوسط، أكد الهلباوي أن التعاون بين الحكومة البريطانية وجماعة الإخوان يعد سمة ثابتة من سياسة بريطانيا، وقال الهلباوي إنه خلال منتصف 1990، عندما شن حسني مبارك حملة على الجماعات الإسلامية المصرية، فإن الحكومة البريطانية هي التي وفرت اللجوء السياسي لأغلب أعضاء الجماعات الإسلامية، عرضت عليه حماية شخصية، وهو الأمر الذي كشفت عنه سلسلة الوثائق التي كشفها الصحفي مارتن برايت المحرر السياسي بجريدة الجارديان عام 2005، والتي أكدت بأن المسئولين في المملكة المتحدة كانوا على علاقة وطيدة مع الإخوان خلال معظم سنوات العقد الماضي.

كشفت الوثائق أيضًا أنه قبل عام 2002 كانت وزارة الخارجية تحتفظ بالتواصل على مستوى العمل مع أعضاء جماعة الإخوان وبعض أعضاء البرلمان، هذه الاتصالات التي كشفتها السلطات المصرية وأبدت استياءها بشكل واضح للمسئولين البريطانيين، مما دفع وزارة الخارجية إلى تخفيض مشاركتها مع الإخوان لتكون اتصالات عرضية فقط، على أن يكون هناك اتصال دائم بعدد محدد جدًّا من الأعضاء، بما في ذلك واحد أو اثنين من الاتصالات مع البرلمانيين واللقاءات العشوائية، الأمر الذي أكدته وزارة الخارجية من خلال المراسلات الداخلية لها، والذي تم طرحه بموجب قانون حرية تداول المعلومات، والذي كشف أنه على الرغم من الاتصالات إلا أنه تم تقليصها، ولكن هذه المحدودية لم تمنع المسئولين البريطانيين من عقد اجتماع مع مرشد الجماعة آنذاك مأمون الهضيبي، وعدد مع بعض الأعضاء البارزين بالجماعة، منهم عصام العريان، وبحضور كمال الهلباوي وزير خارجية الإخوان في لندن.

التمويل باسم الإسلام الوسطي
استطاعت جماعة الإخوان تلقي أموال طائلة من الحكومة البريطانية بحجة نشر الإسلام الوَسَطِي في المجتمع الإنجليزي، وكانت تعمل من خلال الجمعيات الخيرية التي يرأسها وتتبع جماعة الإخوان بشكل مباشر في لندن، الأمر الذي كانت تعلمه المخابرات البريطانية بمكتبيها الخامس والسادس، والتي أوصت بضرورة تمويل الإخوان لردع الإسلام الراديكالي المتطرف في المجتمع الإنجليزي، وفي نفس الوقت تكون الذراع لابتزاز الحكومة المصرية.

البداية كانت في 2004، أي قبل عام من تفجيرات 7 يوليو 2005، والمعروفة بتفجيرات لندن 7/7، تعاونت وزارة الخارجية البريطانية والكومنولث مع مجموعة العالم الإسلامي بهدف خلق بيئة متوائمة مع الدول الإسلامية ومحاولة فهمها، المهمة التي بدأتها بريطانيا على عاتقها بعد تفجيرات 11 سبتمبر، الفترة التي تم وصفها في وقت لاحق بـ"الحرب على الإرهاب"، وتعهدت المجموعة بزيادة فهم الإسلام والمشاركة مع الدول والمجتمعات الإسلامية، والتقريب بين الجانبين لمواجهة الأسس الأيديولوجية الإرهابية، من أجل منع التطرف وحدوث وقوع هجمات محتملة، أيضا كان من إحدى مهامها تسهيل المشاركة البناءة مع مجموعة واسعة من مجموعات الرأي، استغرق ظهور مجموعة العالم الإسلامي فترة، ولكنها كانت معدة على أن تكون الجزء المركزي من مبادرة وزارة الخارجية البريطانية، والتي أطلق عليها مبادرة "المنع".

وشهدت هذه الفترة مشاحنات بين المجتمع البريطاني والمسلمين، لتتولي الحكومة البريطانية دور المحامي عن المسلم كمحاولة لاستخدام الجماعات الإسلامية.

من جانبهم تمكن الإخوان من تعزيز وضعهم من خلال جمعية مسلمي بريطانيا والتي كان أعضاؤها في ذلك الوقت (عزام التميمي)، والمعروف دوليا بالمبعوث الخاص من جانب حركة حماس، وأيضا كان أحد أعضاء الدفاع عن المجموعة، ومحمد صوالحة القيادي في حركة حماس بالضفة الغربية حتى منتصف 1990، بعد أن لعب دورا محوريا في تدشين كيان أسس في وقت لاحق مبادرة مسلمي البريطانية.

واستهدفت الجماعة من ذلك تشجيع الحوار الغربي الإسلامي على حد قولها، واستمرت الجماعة في تمثيل دور الإسلام المعتدل لذا تعاملت معها بريطانيا كحليف أمثل تستقبل الهاربين منه وتستخدمهم كورقة ضغط على الحكومات العربية والإسلامية.

وتتعاون بريطانيا مع الإخوان بمنطق الانفصام، فتجدها مثلا تعلن عن تخوفها من الجماعة القريبة في فكرة من الجماعات المتطرفة لكنها في الجانب الأخر تجرى الاتصالات وتستقبل القيادات.

وظهر ذلك بعد 30 يونيو، عندما استقبلت بريطانيا الإخوان في لندن وفي نفس الوقت تخوفت منهم في تقرير صدر قبل عامين حمل اسم "جنكيز". وجاء التقرير لتوضيح رأي بريطانيا في الإخوان، واصفهم بانهم جماعة ترى في المجتمعات الغربية انحلال وفسوق.

بعد ذلك بعامين جاء تقرير لجنة الشئون الخارجية بالبرلماني البريطاني لتتحدث عن الإخوان كفصيل مظلوم ولم يأخذ فرصته.