المؤامرة في زمن «ترامب»

الأربعاء، 23 نوفمبر 2016 03:55 م
المؤامرة في زمن «ترامب»
إيهاب عمر يكتب

عقب وصول الاستعمار الأوروبي إلى القارة الأمريكية، راحت الدول الأوروبية تتنافس ‏على إقامة المستعمرات في أمريكا الجديدة، ولاحقًا اصبح لكل دولة أوروبية كبري ‏مستعمرة في أمريكا، مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا والنرويج وإسبانيا وروسيا، ويكفي ‏القول بأن نيويورك كانت تابعة لمستعمرة هولندا الجديدة وكان اسمها «نيو أمستردام» ‏قبل أن تصبح نيويورك.‏

ولاحقًا نظم المستعمرون الأوروبيون في المستعمرات البريطانية الثلاث عشرة أنفسهم ‏بشكل أفضل من باقى شعوب المستعمرات الأوروبية، عبر مجالس منتخبة، و المحرك ‏الأول لهذا التنظيم المتفرد في المستعمرات البريطانية عن باقى المستعمرات الأوروبية هو ‏التجارة تحديدًا، حيث تضمنت هذه المستعمرات عددًا من الشركات وجماعات الضغط ‏وشبكات المصالح ورجال الأعمال الذين أدركوا حتمية تنظيم المجتمع بشكل يساهم في ‏تداول التجارة بين المستعمرات وباقى الامبراطورية البريطانية والقارة الأوروبية.‏

مع زيادة الضرائب البريطانية على المستعمرات في أمريكا ثار أبناء المستوطنات ‏البريطانية وتم تكوين مجموعة من الميلشيات الموجودة ومن ثم اندلعت الثورة الأمريكية ‏وحرب الاستقلال الأمريكي، وفي نهاية المطاف استقلت المستعمرات البريطانية الثلاث ‏عشرة وأعلنت قيام الولايات المتحدة الامريكية واُنتخب قائد الجيش القاري جورج ‏واشنطن رئيسًا للدولة الأمريكية الجديدة.‏

لم تكن الشركات الكبرى في المستعمرات بعيدة عما جرى، بل كانت السبب الأول في ‏الحرب وثورة الاستقلال الأمريكي، بداية من دعم سياسيين بأعينهم في المجالس المنتخبة ‏في المستعمرات يدعمون النزعة الانفصالية، وصولا إلى تمويل الميلشيات والكونجرس ‏القاري ثم الجيش القاري نواة كونجرس أمريكا اليوم وجيشها العتيد.‏

وسجلت شبكات المصالح والشركات الامريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ‏سابقة هي الأولى في التاريخ، وهي أن تؤسس مجموعة شركات دولة كاملة، إذ جرت ‏العادة أن تؤسس الجيوش أو الأسر النبيلة الدول في العصور السابقة، ولكن أن تتوحد ‏مصالح رأسمالية وتسلخ جزءًا من أكبر امبراطوريات عصرها وتؤسس دولة لها برلمان ‏منتخب وجيش وتبدأ في تصنيع ثقافات وقوميات ولغة مستقلة، كان هذا الحدث فريدًا من ‏نوعه عبر التاريخ.‏

ومع مرور العقود والأزمنة توسعت تلك الشركات والتحمت مع مثيلاتها في باقى أركان ‏العالم، وظهرت الشركات متعددة الجنسيات وعابرة المحيطات والقارات وصولا إلى ‏ظاهرة «الأمركة» التي تم تسميتها لاحقًا بــ«العولمة»، وأصبح لهذه الشركات الكبرى ‏وشبكات المصالح دور رئيسي في صياغة سياسات العالم، وتلقفت راية الاستعمار من ‏دول الاستعمار القديم وأصبحت هذه الشركات وشبكات المصالح هي الاستعمار الجديد.‏

هذه الشركات وشبكات المصالح اليوم هي المدير والمنتفع الأول من تجارة السلاح ‏والجنس والمخدرات والأدوية والغاز والنفط والمياه والطاقة والآثار، وفي المرتبة الثانية ‏هناك شركات حينما تبلغ قدرًا معينًا من الثراء يكون لها دور، أغلبها يعمل في مجال ‏الطعام والترفيه والزراعة والمشروبات والإعلام والصحافة والنشر، وفي المرتبة الثالثة ‏هناك وكلاء إقليميون ومحليون للشركات الكبرى بلغوا قدرًا من الثراء والنفوذ يمكنهم أن ‏ينفذوا مصالح مشتركة مع الشركات وشبكات المصالح الكبرى.‏

يظن البعض، خاصة في الشرق الأوسط، أن الصهيونية والماسونية وإسرائيل واليهودية ‏السياسية والمسيحية السياسية والإسلام السياسي والمحافظين الجدد في أمريكا وبنك ‏الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وما يسمي «مخابرات الفاتيكان» وبعض الجماعات ‏السياسية والدينية السرية حول العالم هم قادة هذه المنظومة بينما هم في واقع الأمر مجرد ‏أدوات لها فحسب.‏

لا يخضع الغرب كاملا ً لهذه المنظومة – التي يمكن أن نطلق عليها اختصارًا «العولمة ‏الأمريكية» – فهناك العديد من ساسة الغرب عبر التاريخ رفضوا الانخراط في هذه ‏المنظومة، وبالمثل فأن أغلب من انخرط في هذه المنظومة لم يندمج بشكل كامل بل حاول ‏بشكل أو بآخر الظفر بامتيازات شخصية وأخري تتعلق بوطنه في إطار لعبة بالغة التعقيد.‏

وفي أمريكا تحديدًا رغم أنها أول من ابتدعت هذه المنظومة فإن سيطرتها على الحكومة ‏الأمريكية لم يكن سهلا ً وإن كانت المنظومة قد سيطرت بالكامل على نخبة واشنطن أو كما ‏يطلق عليها رسميًا «واشنطن دي سي»، وحذر من سيطرة هذه المنظومة على كرسي ‏الرئاسة بمسميات مختلفة زعامات بقامة جورج واشنطن وبنيامين فرانكلين وصولا إلى ‏الرئيس دوايت أيزنهاور الذى حذر في خطابه الأخير من المجمع الصناعي العسكري ‏إحدي أذرع شبكات المصالح داخل أمريكا، وأيضا الرئيس جون كينيدي الذي حاول تصفية ‏الكثير من نفوذ شبكات المصالح داخل أمريكا ورفض عددًا من مخططاتهم حيال الشرق ‏الأوسط والاتحاد السوفيتي ما جعل اغتياله أمرًا طبيعيًا.‏

قبيل اغتيال كينيدي كان له خطاب شهير يتحدث عن محاولة جارية للسيطرة على أمريكا ‏من قبل جماعات مجهولة، ويظن عشاق نظرية المؤامرة في أمريكا من قبل الشرق ‏الأوسط أن كينيدي كان يتحدث عن الماسونية، بينما المسألة كانت أخطر من ذلك بكثير.

مع صعود إدارة الرئيس رونالد ريجان في يناير 1981، حققت شبكات المصالح سيطرة ‏شبه كاملة على المؤسسات الأمريكية السيادية مثل البيت الأبيض والبنتاجون والكونجرس ‏والخارجية الأمريكية والمخابرات المركزية دفعة واحدة، واستمر هذا المشهد بشكل أو ‏بآخر طيلة سنوات حكم «آل بوش وآل كلنتون وآل أوباما»، وعمل في هذه الإدارات جوقة ‏من الرجالات التابعين لشبكات المصالح.‏

عقب 35 عاما ً من هذه السيطرة كانت النتيجة كارثية على المجتمع الأمريكي، وتولد ‏فريق معارض لهذه السيطرة ، هذا الفريق ليس ضعيفا ً بل هو أيضا ً له شبكات مصالح و ‏له اذرع قوية خارج أمريكا و داخلها ، هذا الفريق يرى حتمية تخليص أمريكا من ‏عصابات نخبة واشنطن وسيطرة نفوذ جماعات الضغط و شبكات المصالح و الشركات ‏الكبرى ، بالاحري عملية هيكلة لعلاقة أمريكا الحقيقة مع العولمة الامريكية.‏

المجتمع الأمريكي تفهم في سنوات أوباما تحديدا ً هذه الفرضية ، و كان رده مدويا ً في ‏صناديق الاقتراع في نوفمبر 2016 ، بانتخاب الرئيس و نائبه و مجلسي الكونجرس من ‏شخصيات اغلبها مضادة لهذه المنظومة.‏

المنظومة ردت سريعا ً بأن طبقت كتالوج الربيع العربي في شوارع أمريكا ، تماما كما ‏فعلتها يوما ً في القاهرة و بني غازي و حلب و الموصل و صنعاء و تونس و المنامة ‏وغيرها ، و اتوقع ان منظومة العولمة الامريكية لم تتوقف لتشاهد في مقاعد المتفرجين ‏دونالد ترامب يقوم بتفكيك نفوذها في جهاز الدولة الامريكية ، مستكملا ً مشاهد التفكيك ‏التي جرت و تجري في بريطانيا على ضوء اختيار الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد ‏الأوروبي في مشهد متصل بما جرى يوم انتخاب ترامب ، ترامب و بريكسيت خطوتان في ‏نفس الطريق ضد نفس المنظومة.‏

سوف تسعي المنظومة الى اشعال سنوات ترامب ، سواء عبر ترتيب اضطرابات دائمة في ‏الشارع او اثارة قضايا الأقليات عبر السود او القضايا الحقوقية عبر الشواذ والنسويات ، ‏بالإضافة الى آلة الاعلام و الصحافة التي لن تهدأ لحظة حيال ترامب وادارته حيث من ‏المتوقع ان يستمر هذا التنمر و التحيز الإعلامي و الصحفي مع كل كلمة يقولها ترامب ‏حال توليه المسئولية ، وصولا ً الى استنفار كافة العلاقات مع اركان نخبة واشنطن ، ‏خصوصا داخل الكونجرس الأمريكي الجهة الوحيدة التي تمتلك القدرة القانونية ليس على ‏عرقلة ترامب بل و تمتلك القدرة على عزله من الرئاسة.‏

عزل ترامب من الرئاسية الامريكية قبل إتمام ولايته الاولي عام 2020 قد يحدث اذا ‏انهارات شعبية ترامب في الشارع الأمريكي بشكل يجعل تحرك رجالات المنظومة داخل ‏الكونجرس ممكنا ً ، او يمكن الانتظار الى عام 2018 حيث انتخابات التجديد النصفى ‏للكونجرس الأمريكي فاذا ما احرز الديموقراطيين انتصارا ً كبيرا ً و مدويا ً وقتذاك يمكن ‏ان يتحركوا لعزل الرئيس ترامب ، و في جميع الأحوال فأن انتصاره مرة اخري في ‏انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2020 هو خط أحمر لمنظومة العولمة الأمريكية.‏

ما يعني ان المؤامرة اليوم انتقلت الى شوارع أمريكا ضد مؤسسات أمريكا الحاكمة ، ‏ليدرك المراقبين ان المؤامرة لا تحدث برعاية الدولة الامريكية بل المؤامرة كانت تسيطر ‏على الدولة الامريكية و انه حال التمرد فأن أمريكا سوف تصبح تحت مدفعية المؤامرة، و ‏لا يمكن ان ننسي حقيقة ان منظومة العولمة الامريكية و ان خسرت بعض مؤسسات الحكم ‏في أمريكا الا ان المعارضة الامريكية و نخبة واشنطن لا تزال موالية لها بالإضافة الى ‏عددا ً من الدول الأوروبية و الدول المهمة في الشرق الأوسط، ما يعني ان تمويل و ‏تسليح ورعاية المؤامرة مثلا في الشرق الأوسط سوف يستمر على يد بعض الدول ‏الأوروبية و الإقليمية في المشرق مدعوما ً بشبكات المصالح التي لا تزال لها قوة داخل ‏أوساط واشنطن دي سي.‏

و الى حين حسم الحرب الاهلية بين شبكات المصالح في أمريكا بعزل ترامب او اغتياله او ‏حتى خسارته في الانتخابات الرئاسية 2020 ، أو حدوث معجزة بانتصاره عليهم و إقرار ‏برنامجه الاصلى للقضاء على نفوذ جماعات الضغط السياسي و فساد نخبة واشنطن ، فأن ‏هذه المنظومة سوف تبحث عن الطرف الأضعف في شبكة التحالفات الامريكية الجديدة من ‏اجل تقويض نفوض دونالد ترامب حول العالم.‏

و اذا كان اهم أصدقاء ترامب المرتقبين هم مصر و الأردن وإسرائيل و الامارات بالإضافة ‏الى التيارات اليمينية في أوروبا بالإضافة الى انفتاح غير مسبوق على روسيا ، فأنه من ‏كافة تلك الأسماء يبدو النظام المصري المنفتح على إدارة ترامب هو الحلقة الأضعف التي ‏يمكن ان يتم اللعب عليها من اجل ان يخسر ترامب اهم نظام حليف له في الشرق الأوسط.‏

منظومة العولمة الامريكية يمكن ان تصل لمساحة تفاهم مشتركة مع مشايخ الامارات ‏وحكام الأردن و إسرائيل ، بينما في مصر اوصد الرئيس عبد الفتاح السيسي هذا الباب ، ‏ما يعني انه و بينما يظن الالاف ان المؤامرة على مصر انتهت بانتخاب ترامب فأنها في ‏واقع الامر سوف تدخل مرحلة اشد عنفا ً و بسبب انتخاب ترامب ، بمعني انهم اذا لم ‏يقدروا على الاحتفاظ بالبيت الأبيض فأنهم سوف يسعون لتعويض هذه الخسارة في جبهة ‏اخري ، و تقليم اظافر ترامب بتدشين نظام في اهم دولة بالمشرق غير متعاون معه.‏

ولكن امام القاهرة حزمة من المميزات في انتخاب ترامب ، أهمها ان مؤسسات الدولة ‏الامريكية تنحاز للقاهرة علنا ً ضد المؤامرة ، خاصة البيت الأبيض و البنتاجون ‏والمخابرات المركزية ، و في الواقع ان سنوات ترامب هي فرصة أخيرة امام القاهرة ‏لتجفيف منابع المؤامرة في مصر ، خاصة ان التاريخ علمنا انه عقب كل مرحلة صعود ‏للعلاقات المصرية الامريكية تأتي مرحلة اضمحلال شرسة ، مرحلة عبد الناصر – كينيدي ‏اتي بدها الرئيس ليندون جونسون بنكسة يونيو 1967 ، مرحلة السادات – كارتر اتي ‏بعدها الرئيس ريجان بحادث المنصة ، مرحلة مبارك – بيل كلنتون اتي بعدها الرئيس ‏بوش الابن بالحرب على العراق و الرئيس باراك أوباما بالربيع العربي، ما يعني حتمية ‏ان تتحصن مصر من الانتكاسة المتوقعة في العلاقات المصرية الامريكية عقب رحيل ‏ترامب من سدة الحكم.‏

 

تعليقات (1)
نقطة خلاف
بواسطة: وليد
بتاريخ: الأربعاء، 23 نوفمبر 2016 11:59 م

تحليل جميل ويبدو منطقى لكن لم يذكر المحلل ان ترامب فى حد ذاته يمتلك مؤسسة مالية ضخمة لايمكن ان نتجاهل اثيرها وتاثرها على مجريات الامور

اضف تعليق


الأكثر قراءة