هل هو جورباتشوف آخر؟
الأحد، 04 ديسمبر 2016 11:38 ص
بعد حوالي ثلاثين عامًا من «بريسترويكا جورباتشوف» أي إعادة البناء والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، المشمولة بـ«الجلاسنوست» أي الشفافية من 1987 إلى تفكك الاتحاد السوفيتي1991 من ناحية، وتغير النظام العالمى إلى نظام أحادي القطب من ناحية أخرى، يأتي انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية ليطرح العديد من التساؤلات، من حيث تبنيه بعض البرامج للإصلاح الاقتصادي، والمقاربة هنا ليست من ناحية تفكك الدولة بقدر ما هي تشكيل نظام عالمي جديد.
فما بين رغبة السيد ترامب بالاهتمام بالشأن الداخلي الأمريكي على حساب الأدوار التي تلعبها أمريكا في العديد من المناطق، خاصة دور الشرطي القائم على حماية قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وذلك بوصفها الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، مع رفض السيد ترامب لمصطلح الاستثناء الأمريكي الذي يراه مُهينًا للدول الأخرى بحسب تعبيره، وهو الدور الذي طالما كلف الولايات المتحدة ثمنًا دبلوماسيًا لا لزوم له أحيانًا، وأثمانًا عسكرية باهظة على كاهل الخزانة الأمريكية غالبًا، أو يتم تحميلها لدول مستفيدة في أحيان قليلة أخرى، وعلى ذلك فإنها المرة الأولى التي يعلن فيها رئيس أمريكي رفضه للسرد الأخلاقي للأدوار التي تقوم بها أمريكا دوليًا منذ انتهاء الحرب العالمية، هذا بالإضافة إلى ما تتحمله الخزانة من أعباء مصروفات الدفاع لحلف «الناتو» والتي تُقدر بنحو 72% من ميزانية الحلف التي بلغت في 2015 نحو 900مليار دولار، والذي يرى السيد ترامب أن الناتو لا يفيد أمريكا بقدر ما تستفيد منه أوروبا، مما يرجح أن تجنح الإدارة الأمريكية القادمة إلى تبني سياسة انعزالية والتركيز على الشأن الداخلي.
هذا بالإضافة إلى رفض العولمة واتفاقيات التجارة الحرة ودعم سياسات حمائية لإعادة الوظائف والصناعات إلى أمريكا مجددا، وهو ما أعلنه ترامب من نيته الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر الباسيفيك مع إحدى عشرة دولة، مما سيؤثر بشكل سلبي في حلفاء أمريكا مثل كندا والمكسيك واليابان، بل التهديد بالخروج من منظمة التجارة العالمية، بينما أعرب عن نيته أيضًا عن رغبته في عدم تفعيل اتفاقية التجارة عبر الأطلسي مع أوروبا مما يؤدي لشكل آخر من أشكال العزلة على الولايات المتحدة، بالإضافة إلى القرارات المباشرة الصادمة، مثل زيادة الرسوم على الواردات القادمة من الصين إلى 45% ومن المكسيك إلى 35%، وهي من القرارات الرئاسية التى لا تحتاج إلى تصويت من الكونجرس.
ما يجعلنا نربط بين «بريسترويكا جورباتشوف» تطلعات ترامب ليس من ناحية تفكك الدولة ولكن من ناحية تشكيل نظام عالمي جديد تنسحب فيه الولايات المتحدة من أدوارها المعروفة لتترك الساحة للعديد من التكهنات عن الاستقرار العالمي الذي لعبت أمريكا فيه دورًا مهمًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في ظل نظام ثنائي القطبية، حتى تفكك الاتحاد السوفيتى وظلت تلعب نفس الدور منفردة على مدى الثلاثين عامًا الماضية تقريبًا.
لقد فطنت دول الاتحاد الأوروبي مبكرًا إلى أن السيد ترامب لا يرى من روسيا تهديدًا مباشرًا، بل يرى أنه يمكن إعادة صياغة العلاقة على أساس من التعاون في بعض المناطق، وخاصة فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، كما أنه لا يجد تهديدًا كما كان من الاتحاد السوفيتي السابق من حيث تصدير الشيوعية أو مساندة ثورات ضد الرأسمالية، مما يجعله قد يعيد تقييم الدور الأمريكي في حلف الناتو وقدر المسئولية الأمريكية، فبدأ الاتحاد الأوروبي على الفور برسم سياسات دفاعية خاصة وبدأ بتخصيص ميزانية خاصة لهذا الغرض، في وقت تتعرض فيه أوروبا لخطر الانشقاقات وتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد مع تنامي التيار اليميني المتطرف الداعي للانفصال مع انهيار اقتصاديات بعض الدول مثل اليونان وإسبانيا التي وصلت فيها نسبة البطالة إلى 19.2%، والهزات الاقتصادية الإيطالية، بالإضافة إلى موضوع الهجرة المتزايد وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى الملف التركي المُعقّد بين تعليق المناقشات في مسألة عضويتها في الاتحاد والتهديد التركي بفتح المجال للهجرة إلى أوروبا عبر أراضيها عكس الاتفاق المسبق، وهو ما كلف دول الاتحاد حوالي ثلاث مليارات يورو للحكومة التركية حتى الآن.
بالنظر إلى النظام العالمي في حالة تطبيق ما أعلنه السيد ترامب أو جزء منه، وهو عودة الدولة القومية بوصفها اللاعب الأساسي على المسرح العالمي وليس الشركات العابرة للقومية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى والذى أعتقد أنه ليس سهلا بمكان، ولكن افتراض ذلك مهم أيضًا، حيث يطل التساؤل: إن كان الاستقرار الدولي يتطلب قدرات عسكرية فقط، أم إمكانيات اقتصادية أم الاثنتين معًا، وإذا ارتضت أمريكا لنفسها أن تلعب أدوارًا أقل تأثيرًا مما تقوم به خارج حدودها فمن لديه الجاهزية أن يشغل هذا الفراغ أو أن نظامًا جديدًا بشروط مغايرة في طور التشكل يمكنه أن يحقق ما حاولت أن تقوم به الولايات المتحدة على مدى عقود مرت، حسبما أعلنت السيدة ميركل في خطابها أمام «البوندستاج» عن كيفية إعطاء العولمة بعدًا إنسانيا، في ظل شعور عام من المواطنين بالضرر من تلك العولمة وتفضيل الانسحاب من النظام الدولي، وأن الحل ليس في الانغلاق والعزلة بل في محاولة تشكيل هذا العالم، فقد أكدت السيدة السياسية القديرة دور ألمانيا في قيادة هذا الدور وذلك بتقوية ألمانيا من ناحية وتقوية الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وربط رخاء ألمانيا برخاء أوروبا مع تأكيد دور ألمانيا في دعم العولمة عبر تقوية المؤسسات الدولية وتقوية التعاون مع الشركاء الدوليين.
وهنا نجد أول تغيير جذري يمكن أن يحدث وهو تغيير نمط السياسة الدولية من السياسات الواقعية الأمريكية التي تعتمد على منطق موازين القوى باستخدام الرأسمالية والآلة العسكرية، إلى سياسات ليبرالية تعتمد على تقوية المؤسسات الدولية وتنمية أدوارها، بالإضافة إلى الاعتماد على الإمكانات الدبلوماسية في حل المشكلات وتدارك الحلول، لأن السياسة الانعزالية الأمريكية لن تؤثر فيها فقط ولكن في كل اللاعبين الأساسيين على الساحة الدولية مما ينبئ ببزوغ لاعبين جدد أو محاور جديدة تتشكل مثل ضلوع أوروبا بالدور الأكبر والتي يمكننا أن نضيف إليها اليابان على الجانب الآخر من العالم، مع إشراك كوريا الجنوبية واستراليا إلى هذا المحور المهم وهي الدول التي سوف تتضرر من إخلال الولايات المتحدة بتعهداتها العسكرية تجاهها، مما قد يؤدي إلى زيادة الإنفاق العسكري في العديد من الدول على حساب محاور التنمية فيها ورخاء مواطنيها، بالإضافة إلى المخاوف العامة بحدوث ركود اقتصادي عالمي أو بالأخص خوض حرب تجارية مع الصين يكون مؤداها اضطرابات سياسية وعسكرية خاصة في منطقة القارة الآسيوية.
فهل مما سبق يمكننا إلى حد كبير أن نقر بأن انتخاب السيد ترامب سوف يؤدي بالعالم إلى عصر جديد من التحولات الكبرى على نحو ما أدت إليه «بريسترويكا جورباتشوف» منذ ثلاثين عامًا، أم من الأسلم حسب تصريحات ترامب في مرحلة الدعاية الانتخابية ثم بعد فوزه وقبل استلامه الفعلي للسلطة من قبيل الحماسة والرغبة في التميز، أن ننتظر المائة يوم الأولى من حكمه والتي تبدأ في العشرين من يناير المقبل لترد على تكهنات البعض، وتوجسات البعض الآخر وتخوفات الكثيرين.