«العادي» يكفي وزيادة
الجمعة، 16 ديسمبر 2016 06:16 م
على خلفية المجزرة البشعة التي جرت في الكنيسة البطرسية، والتي أوقعت العشرات من النساء والأطفال المسيحيين، شهداء ومصابين، أثناء تأديتهم للصلوات بين أيادي الرحمن، ومثلما يحدث عقب كل جريمة كبرى، تقليدية كانت، أو إرهابية.. تعالت الصرخات والشعارات الساخنة والأصوات منادية بتشديد العقوبات، تصديًا للجريمة أو لمنع تكرارها، وذهبت أصوات هنا وهناك إلى المطالبة بتعميم «المحاكمات العسكرية»، وتعديل الدستور، كي يُسمح بمثل هذه المحاكمات «المحظورة دستوريًا» بحق المدنيين، إلا أن تكون المنشأة المُستهدفة بالاعتداء «عسكرية»، أو في حكمها.
تكرر هذا المسلك مع اختلاف التفاصيل، فقد تم تغليظ عقوبة تسهيل «الهجرة غير الشرعية»، فلم تتوقف، بالعكس فقد زادت بحسب الأنباء الواردة من محطة الوصول الإيطالية على الشاطئ الأوروبي الآخر، وكذلك الحال مع شركات الصرافة وأزمة «الدولار»، ولم تُحل الأزمة، بل زاد سعره، ولا يختلف الحال كثيرًا في غيرها من الموضوعات، وعلى رأسها قضية الإرهاب ذاتها، فقد شددنا العقوبات، وصدر قانون الكيانات الإرهابية، رغم أن «قانون العقوبات» يضمن سوء العقاب والمصير للإرهابي «الإعدام في بعض الحالات»، ومع هذا لم تتوقف الجرائم الإرهابية في شمال سيناء، بل راح الإرهاب يتمدد ويتوسع، وتسلل إلى الدلتا، ووصل إلى «قلب عاصمة مصر المحروسة بعناية الله»، وطال الكنيسة البطرسية على بُعد خطوات من «مقعد البابا»، وأوقع بها هذه المذبحة الإرهابية.
وقبلها يأيام معدودة، كانت عملية الطالبية بالهرم «غرب القاهرة»، وسبق هذه وتلك اغتيال عميد الجيش عادل رجائي أمام منزله بمدينة العبور «شرق العاصمة»، وغيرها مما لا يتسع المجال لحصره، المشكلة في استمرار التعامل بهذا النهج الانفعالي مع «قضية الإرهاب»، الأخطر على كيان الدولة ومقومات تماسكها واستمرارها، واقتصادها من باب الإخلال بالأمن، وإشاعة الشعور بافتقاد الأمان والاستقرار.
من مساوئ هذا «النهج الغلط» المُتبع، أنه يماثل في أضراره الجنوح إلى تفسير كل مشكة تواجهنا على أنها ناتجة عن «مؤامرة» دولية أو ماشابه.. هذا لايعني إنكار فكرة «المؤامرة» كلية.. لكن الكارثة هنا كما في النهج الانفعالي، أن كليهما يصرفنا عن التعامل بموضوعية ومنهج علمي مع المشكلة، إذ يمنعنا من تشريح المشكلة وتفكيكها بغية تشخيصها بشكل علمي رصين، بدراسة مسبباتها، وتداعياتها واقتراح الحلول والبدائل، مع تحديد مكاسب وخسائر كل بديل، بما يقلل من خسائر المجتمع والدولة الناتجة حتمًا عن الحلول الانفعالية والعشوائية التي لا تخرج عن تغليظ العقوبات، وإصدار المزيد من التشريعات التي ربما تزيد الأمر تعقيدًا بأكثر مما هو مُعقد.
عودة للهجوم الإرهابي العنيف على الكنيسة البطرسية، فهو ليس الأول من نوعه، بل سبقه في عام 2011 الهجوم الشهير بسيارة مفخخة على كنيسة القديسين بالإسكندرية، ولدينا مسلسل دائم ومستمر منذ سبعينيات القرن الماضي للاعتداء على الأقباط وكنائسهم، عندما احتضن الرئيس الراحل أنور السادات «التيار الإسلامي» الظلامي، ومكّن له في المدارس والجامعات ومؤسسات الدولة، دعما لصورة «الرئيس المؤمن» التي أرادها لنفسه، وطوال هذه العقود، هناك شحن طائفي ضد المسيحيين وعمليات تهجير قسري لعائلات مسيحية، ناهيك عن التمييز ضددهم في الوظائف والمناصب، وتعامل الدولة بليونة في الاعتداءات السلفية المتكررة عليهم في الصعيد وأماكن متفرقة بالبلاد.. هذه كلها مشكلات في حاجة إلى دراسة موضوعية وحلول تتعامل مع أسس المشكلة وجذورها لاقتلاعها.
و«أم المشاكل» هنا هو إنتاج الكراهية ضد الإخوة المسيحيين من خلال «مقررات دراسية» بالتعليم العام والأزهري وعلى منابر زوايا ومساجد ومنصات إعلامية وثقافية ودينية.. إذ إن هذا الانتحاري سواء كان هو الفاعل أو غيره لم يذهب للكنيسة البطرسية لإيقاع كل هؤلاء الضحايا، لأنه مختلف معهم على الميراث، ولا لأنهم قتلوا أهله مثلًا، إنما ملأت «الكراهية» أولًا فكره وعقله ووجدانه، ثم أقنعوه بأن قتل هؤلاء هو طريقه إلى الجنة وحورياتها الحسان، وهذا كله لا يمنع التأكيد على ضرورة تطوير الفكر الأمني لتلافي أوجه القصور التي ينفذ منها الإرهابيون.
فضلًا يا سادة.. لا تتركوا جذور القضية وتأخذونا بعيدًا إلى نهجكم الغلط، فهذا النهج لم يحل أي مشكلة، وقضية الإرهاب ذاتها خير دليل.. وبالمناسبة ما دمنا على سيرة التشريعات المغلظة، فإن القوانين القائمة ومحاكمات القضاء العادي تكفي وزيادة، لو خلصت النية.
نسأل الله السلامة لمصر.