شهداء جبر الخواطر
السبت، 17 ديسمبر 2016 11:45 ص
لا شك في أن إعلان الرئيس شخصيًا عن التوصل لهوية مفجر كنيسة البطرسية بالاسم - بكل ما له من احترام ومصداقية – كان يقطع بأن الرئيس متأكد «مليون في المائة» من المعلومة حيث إنه لن يضع مصداقيته على المحك دون أدلة قاطعة، ولكني توقفت عند جملة واحدة في تصريح الرئيس لم أستطع استيعابها، وهي أنه لم يكن هناك تقصير أمني، وسوف نعود لهذه الجملة لاحقًا.
انتظرت أن يكون هناك مؤتمر صحفي يشرح بالتفصيل ويبرز الأدلة التي تقطع بهوية الفاعل وكيف تم التوصل لها في وقت أقل ما يوصف به أنه قياسي، إلا أنه لم يحدث وبقيت مع جميع المواطنين في حيرة والشك يقتلنا جميعًا، خاصة أننا نعوم في بحر من الشائعات والنظريات لبعض مثيري الجدل والأخبار المضللة وبعض التصريحات لمصادر مجهلة كالعادة، مع استنكار منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي يصل لحد السخرية من السرعة غير المفهومة أو المعهودة حتى بالنسبة لأقوى أجهزة الأمن العالمية في حوادث بمثل هذه الجسامة، وكان المطلب شبه العام للمتشككين هو: أين الأدلة؟.
كان مصدر التشكك هو مجموعة من العوامل، على رأسها أن عددًا من الروايات الرسمية ثبت لاحقًا عدم صدقها في حوادث مختلفة بدءًا من تفجير كنيسة القديسين - ناهيك عن أصابع الاتهام التي وُجهت للنظام الأسبق وداخليته بتدبيره في وقتها - ومرورًا بحوادث أخرى كثيرة منذ ذلك الحين، وهو ما زرع بذرة الشك.
ولكن بفحص الأمر بمهنية بحتة وتنقيح هذا الكم المتوافر من المعلومات المؤكدة التي جُمعت تفاصيلها عبر مختلف وسائل الإعلام من البيانات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي والتواصل الشخصي مع بعض كبار صحفيي الحوادث، أعلنت على موقعي للتواصل الاجتماعي اعتذاري عن عدم تصديق رواية الدولة في بادئ الأمر، اعترافًا بخطئي بطغيان مشاعر الصدمة والإنكار على تفكيري المهني وقتها، لذا كان من الواجب أن أوصل لكم الحقيقة التي توصلت إليها من مختلف المصادر وهي ليست بالتعقيد المتصور، حيث إن الحادث - برغم هوله وبشاعة خسائره - إلا أنه لبساطة تفاصيله أثار شك الكثيرين.
لقد ثبت بشهادة الشهود أن «محمود شفيق» ذهب في اليوم السابق للكنيسة لمعاينة مسرح الجريمة مدعيًا رغبته في الانضمام للمسيحية، حيث تعرف على صورته العاملون بالكنيسة لاحقًا، ثم قام الأمن بتجميع أشلاء وجهه مسترشدين بصورته بمجهود مضنٍ يستحق عظيم التحية، ليتم تحليل حمضه النووي في مدى زمنى لا يتجاوز الخمس ساعات طبقًا للتصريحات الرسمية لكبير الأطباء الشرعيين وتأكيد شخصية مرموقة مثل الطبيب الشهير د. محمد غنيم- ما يقطع كل اللغو الفارغ عن طول المدة المطلوبة لتحليله مع التطور العلمي الحالي- ثم مضاهاته بالحمض النووي لمحمود شفيق، حيث إن وجوده السابق لدى الأمن وتوفر بصمته الوراثية ألغى وقتًا طويلًا من البحث، ومنها تم الوصول لبقية أفراد التنظيم ومن ثم اعلان الرئيس لاسمه.
الخلاصة في هذا الحادث الجلل بالنسبة لي هي نقطتين: الأولى هي أن الأمن المصري قام فعلا بإنجاز يستحق الإشادة والتحية بالتوصل للفاعل في وقت قياسي طبقا لأحدث المنظومات المهنية عالميًا، لكن تفرق حقه في التقدير بين القبائل الإعلامية لعدم تعامل الدولة مع الحدث بالمعايير الإعلامية الدولية، الممثلة في عقد مؤتمر صحفي عالمي في أسرع وقت ممكن بعد إعلان الرئيس، لتوضيح تفاصيل هذا الإنجاز الأمني المشرف وترتيبها وشرح منهجية الوصول للفاعل واعلان الأدلة الدامغة لكل وسائل الاعلام العالمية، حيث إن الحادث لاقى اهتمام العالم بأسره.
أهمية المؤتمر تكمن في قطع الشك باليقين والأدلة وعدم ترك مجال للمزايدات أو التشكيك خصوصًا مع تربص وسائل الإعلام الإخوانية المعادية طوال الوقت، كما تكمن في رفع ثقة الشعب في كفاءة أجهزته الأمنية، ناهيك عن إعطاء التقدير اللازم للقائمين على هذا الإنجاز.
أما النقطة الثانية هي عدم وجود تقصير أمني!، وخلال بحثي عن حقيقة دور سيارة البوكس بقوتها الأمنية الظاهرة أسفل يسار الكادر في فيديو التفجير، ظهر أنه لا دور لها سوى الوقوف بلا عمل إلا إذا استدعاها أمن الكنيسة عند اشتباهه في أحد، حيث أجمعت المصادر الأمنية والكنسية على رفض الكنيسة للوجود الشرطي داخلها وأن الأمن الداخلي يكون من أفراد الكنيسة وأن الجميع ارتضى بذلك، ناهيك طبعًا عن عدم وجود كلاب كشف عن المتفجرات ولو على فترات متقطعة كما كان يحدث في سنين سابقة، وأيضًا عدم كفاءة عدد كبير من أجهزة كشف المعادن التي يستخدمها أمن الكنائس إن كانت تعمل، وإن وُجدت من الأساس!.
ماهذه الثغرة الأمنية الخرافية؟.. ما السبب؟.. في حدود ما وصلني، فإن المصلين يشعرون بالسوء إذا قام فرد من الشرطة بطلب تفتيشهم وأن في الموضوع حساسية في التعامل ومراعاة للشعور!
تخيلوا يا سادة: الناس استُشهدوا بسبب حساسية تفتيش المصلين وقت دخولهم الكنيسة.. استُشهدوا جبرا للخواطر!.
يا سادة: إن الثغرة الأمنية لا جدال فيها.. والمسؤولية تقع على عاتق الأمن والكنيسة الارثوذكسية معا، «الأمن» لموافقته على هذه الإجراءات التأمينية المعيوبة أمنيًا، جبرًا لخاطر حساسية مشاعر المصلين، وأيضًا تقع على عاتق الكنيسة التي وافقت بشكل غير مباشر على تعريض سلامة المصلين للخطر جبرًا لخواطر بعضهم.. بينما كان الأجدى هو الموافقة على صرامة الإجراءات حفظًا لأمن الجميع وإفهام المصلين خطورة الوضع وضرورته، إذا كان ذلك جائزًا في السابق فلا أعتقد أنه يجوز مرة أخرى مستقبلا في وطن يحارب إرهابًا يبحث عن أي ثغرة أمنية فيه ليفجره.
دم هؤلاء الشهداء معلق في رقاب كل من شارك في صنع هذه الثغرة سواء عن قصد أو بدون، من أول المواطن المسيحي الذي تأفف وأعلن استهجانه من التفتيش الشرطي دون أن يفكر، إلى قيادات الكنيسة التي قدمت مشاعر المصلي على حساب أمنه، نهاية بقيادات الأمن التي وافقت على هذا الوضع الأمني المعيوب.. لا تدعوا الناس تستشهد جبرًا للخواطر.