«يحيى المشد».. الموت الغامض في الغربة
الثلاثاء، 24 يناير 2017 11:06 ص
عالم مصري متخصص في هندسة المفاعلات النووية.. كان واحدًا من الكوادر العلمية التي استثمر علمها في البرنامج النووي المصري قبل أن يلتحق في أواخر سبعينيات القرن العشرين بالمشروع النووي العراقي.
إنه يحيى المشد الذي ولد في مدينة بنها، بالقليوبية، 11 يناير 1932، وتعلم حتى تخرج من قسم الكهرباء في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية عام 1952، ثم اختير لبعثة الدكتوراه إلى لندن سنة 1956، لكن العدوان الثلاثي على مصر حوله إلى موسكو، تزوج وسافر وقضى هناك 6 سنوات، عاد بعدها سنة 1963، متخصصًا في هندسة المفاعلات النووية.
وعند عودته انضم «المشد» إلى هيئة الطاقة النووية المصرية، حيث كان يقوم بعمل الإبحاث، انتقل إلى النرويج بين سنتي 1963 و1964، وقبل أن يسافر تم زفافه على إحدى بنات عمه وسافرت معه هناك ليقضيان 6 سنوات يعود بعدها لمصر واحدًا من أهم 10 علماء على مستوى العالم في مجال التصميم والتحكم في المفاعلات النووية.
وعقب عودته تم تعيينه في المفاعل الذري المصري «بأنشاص» بعدها بفترة بسيطة تلقى عرضًا للتدريس في النرويج وبالفعل سافر، ومعه زوجته أيضا، ليقوم بالتدريس في مجاله، وهناك تلقى عروضًا كثيرة لمنحة الجنسية النرويجية بلغت أحيانًا درجة المطاردة طوال اليوم، والمعروف أن النرويج هي إحدى مراكز اللوبي الصهيوني في أوروبا وهي التي خرج منها اتفاق أوسلو الشهير.
«المشد»، رفض كل هذه العروض لكن أثار انتباهه هناك الإعلام الموجه لخدمة الصهيونية العالمية، وتجاهل حق الفلسطينيين وأزمتهم فما كان منه إلا أن جهز خطبة طويلة بشكل علمي منمق حول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وانتهز فرصة دعوته لإحدى الندوات المفتوحة، وهناك قال كلمته التي أثارت إعجاب الكثيرين ولكنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني والموساد في النرويج، وكانت هذه الخطبة سببًا في بداية ترصد خطواته وتعقبه، خصوصًا وأنه قد تحدث بلسان العلم في السياسة، وعندما يجتمع الاثنان على لسان واحد فالمجال مفتوح للاتهام بالعصبية والشوفينية كمبرر أول لإعلان الكراهية.
وبدأت المضايقات الشديدة لـ«المشد» من الجهات المعادية للعروبة ولفلسطين، فقرر العودة إلى القاهرة.
عاد «المشد» للقاهرة مرة أخرى وقام بالتدريس في جامعة الإسكندرية، ثم طلبته جامعة بغداد فتمت إعارته لمدة 4 سنوات، وكان المسؤولون العراقيين قد طلبوه بعد أن حضر مؤتمرًا علميًا في أعقاب حرب 1973 في بغداد، وبعد أن انتهت مدة الإعارة تمسك به العراقيون وعرضوًا عليه أي شيء يطلبه، ولم يطلب «المشد» سوى العمل في مؤسسة الطاقة الذرية العراقية إلى جانب التدريس لبعض الوقت في كلية التكنولوجيا، وبذلك كتب أول مشهد في سيناريو اغتياله.
وفي إبريل 1979، تم تدمير قلب الفرن النووي للمفاعل العراقي «أوزوريس» في مخازن بلدة «لاسين سورمير» القريبة من ميناء طولون الفرنسي عشية إرساله إلى بغداد، على يد الموساد، ولم يكن بوسع أحد من العلماء القيام بمهمة إصلاح الفرن سوى «المشد»، الذي نجح في إصلاحه والإشراف على عملية نقله لبغداد.
بعدها أصبح الدكتور يحيى المشد، المتحدث الرسمي باسم البرنامج النووي العراقي، ثم ترأس البرنامج النووي العراقي الفرنسي المشترك، وكانت أول وأهم وأخطر إنجازات «المشد» هي تسهيل مهمة العراق في الحصول على اليورانيوم المخصب من فرنسا.
وبعد قيام الثورة الإيرانية، عجز النظام الإيراني الجديد عن سداد ديونه لدى شركة «الكونسرتوم» الفرنسية لإنتاج اليورانيوم، فعرض على هذه الشركة شراء أسهم الحكومة الإيرانية باسم حكومة العراق، ونجح في ذلك وأصبح باستطاعتها الحصول على اليورانيوم، الذي تحتاجه، وكان هذا المشهد هو بداية التحول الدرامي في سيناريو اغتيال «المشد».
في مايو 1980 تم استدعاء «المشد» لفرنسا في مهمة بسيطة للغاية يستطيع أي مهندس أو خبير عادي أن يقوم بها على أكمل وجه، وتلاحظ بداية خيط الأحداث ونقطة انطلاق الغموض.
كان «المشد» يقوم كل فترة بإرسال كشف اليورانيوم الذي يحتاجه كمًا وكيفًا، وكان يطلق على اليورانيوم اسمًا حركيًا «الكعك الأصفر» وكان يتسلمها مندوب البرنامج في العراق ويبلغ بما تم تسلمه، ولكن آخر مرة أخبره أنه تسلّم صنفًا مختلفًا وكمية مختلفة عما طلبه «المشد»، فأرسل للمسؤولين في فرنسا، في برنامج العمل النووي ليخبرهم بهذا الخطأ، فردوا عليه بعد 3 أيام، وقالوا له: لقد جهزنا الكمية والصنف الذي تطلبه، وعليك أن تأتي بنفسك لفحصها ووضع الشمع الأحمر على الشحنات بعد التأكد من صلاحيتها بل وقام بتصنيع معظم أجهزة المعامل الموجودة في العراق بمجرد فحص المعدات في المصانع الفرنسية والروسية، وقام بتصنيع أجهزة معمله بنفسه.
سافر «المشد» إلى فرنسا، وفي أحد الفنادق كانت نهايته، حيث شوهد مع سيدة جميلة كانت تحاول الإيقاع به، وبعدها وجد مقتولا بسكين داخل غرفته، وبعد أيام قتلت تلك السيدة لأنها الشاهدة الوحيدة في القضية.
ولاشك أن يقين الباحثين في قيام الموساد باغتيال «المشد» يتضح في اعترافات قادة الموساد، والتي نشرها جوردون توماس في كتابه الشهير «التاريخ السرى للموساد» والذي ترجمه إلى العربية أحمد عمر شاهين ومجدي شرشر، وصدر عام 1999 بالقاهرة عن دار «سطور»، أن إسحق هوفي، رئيس الموساد، اختار بنفسه فريق الاغتيال الذي ذهب إلى فرنسا، وتابع العالم المصري يوما وراء الآخر، واستخدم مفتاحًا احتياطيًا لدخول الغرفة وطعنوه، ثم قتلوا الشاهدة الوحيدة التي سمعت ضوضاء بالغرفة فيما بعد.
واستمر الموساد يتتبع علماء المفاعل العراقي حتى قامت مقاتلات اسرائيلية في 15 مارس 1981 بقصف المفاعل العراقي وتحويله إلى حجارة.
«ماري كلود ماجال» أو الشهيرة بـ «ماري إكسبريس»– الشاهدة الوحيدة - وهي امرأة ليل فرنسية كانت تريد أن تقضي معه سهرة ممتعة، أكدت في شهادتها أنه رفض تمامًا مجرد التحدث معها، وأنها ظلت تقف أمام غرفته لعله يغير رأيه، حتى سمعت ضجة بالحجرة، ثم أغتيلت أيضًا هذه الشاهدة الوحيدة.
ودافعت عنه وبشدة زوجته «زنوبة علي الخشاني» حيث قالت: «يحيى كان رجلا محترمًا بكل معنى الكلمة، وأخلاقه لا يختلف عليها اثنان، وقبل أن يكون زوجي فهو أبن عمتي، تربينا سويًّا منذ الصغر، ولذلك أنا أعلم جيدًا أخلاقه، ولم يكن له في هذه السكك، حتى إنه لم يكن يسهر خارج المنزل، إنما كان من عمله لمنزله والعكس».
وقيل أيضًا: إن هناك شخصًا ما استطاع الدخول إلى حجرته بالفندق وانتظره حتى يأتي، ثم قتله عن طريق ضربه على رأسه، وإذا كان بعض الصحفيين اليهود قد دافعوا عن الموساد، قائلين: إن جهاز الموساد لا يستخدم مثل هذه الأساليب في القتل، فالرد دائمًا يأتي: ولماذا لا يكون هذا الأسلوب اتُّبع لكي تبتعد الشبهات عن الموساد؟! ودليل ذلك أن المفاعل العراقي تم تفجيره بعد شهرين من مقتل المشد، والغريب أيضًا والمثير للشكوك أن الفرنسيين صمّموا على أن يأتي المشد بنفسه ليتسلم شحنة اليورانيوم، رغم أن هذا عمل يقوم به أي مهندس عادي، كما ذكر لهم في العراق بناء على رواية زوجته، إلا أنهم في العراق وثقوا فيه بعدما استطاع كشف أن شحنة اليورانيوم التي أرسلت من فرنسا غير مطابقة للمواصفات، وبالتالي أكدوا له أن سفره له أهمية كبرى.
الغريب أنه بعد رجوع أسرة المشد من العراق، قاموا بعمل جنازة للراحل، ولم يحضر الجنازة أي من المسؤولين أو زملاؤه بكلية الهندسة إلا قلة معدودة، حيث أن العلاقات المصرية العراقية وقتها لم تكن على ما يرام بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وأصبحت أسرة «المشد» القادمة من العراق لا تعرف ماذا تفعل بعد رحيله، لولا المعاش الذي كانت تصرفه دولة العراق، والذي صرف بناء على أوامر من صدام حسين مدى الحياة (رغم أنه توقف بعد حرب الخليج)، بجانب معاش ضئيل من الشؤون الاجتماعية التي لم تراع وضع الأسرة أو وضع العالم الكبير.
كما أن الإعلام المصري لم يسلط الضوء بما يكفي على قصة اغتيال «المشد» رغم أهميتها، ولعل توقيت هذه القصة وسط أحداث سياسية شاحنة جعلها أقل أهمية مقارنة بهذه الأحداث.
وبقي ملف «المشد» مغلقا، وبقيت نتيجة التحريات، أن الفاعل مجهول، وأصبح «المشد» واحدا من سلسلة من علماء العرب المتميزين الذين تم تصفيتهم على يد الموساد، يوم 13 يونيو 1980 في ظروف غامضة خلال وجوده بالعاصمة الفرنسية باريس.