الداء «الصدري»

الإثنين، 20 فبراير 2017 04:44 م
الداء «الصدري»
عبد الحليم قنديل يكتب

ما يجرى فى بغداد هذه الأيام ليس ثورة، والسيد بالوراثة مقتدى الصدر ليس قائد ثورة، وقتلى التيار الصدرى فى المظاهرات هم ضحايا «بابوات» الدم، والشعارات لا بأس بها، فهى احتجاج فى محله على الخراب والفساد وتوزيع تركة السلطة.

وقد أرادت مظاهرات مماثلة قبل عام إلغاء «المحاصصة» فى الحكومة، بينما المظاهرات هذه المرة تريد إلغاء «المحاصصة» فى تكوين مفوضية الانتخابات، وكما لم يتحقق شىء فى المرة التى سبقت، فلا يتوقع أحد أن يجرى تغيير جوهرى على مفوضية الانتخابات، والتى تتشكل من عشرات آلاف الموظفين، يتقاضى الواحد منهم راتب وكيل وزارة، ويتأخرون عادة فى إعلان نتائج الانتخابات لثلاثة أسابيع، وبحسب قانون انتخابات يعطى الأولوية والفوز لمن يدفع.

وقد لا تكون القصة الأهم فى مفوضية الانتخابات وعوارها، وفى سيطرة الأحزاب الطائفية عليها، فالانتخابات فى العراق عمل صورى تماما، ونتائجها فى كل مرة تشبه التى سبقتها، وتوازنات البرلمان الطائفية تبقى كما هى، والحكومات التى تتشكل متقاربة فى جوهرها، من حكومات نورى المالكى زعيم حزب الدعوة الموالى لإيران، وإلى حكومات حيدر العبادى القيادى فى حزب المالكى، ولا شىء يتغير ويتطور فى العراق سوى معدلات الفساد، التى جعلت العراق مع الصومال فى مرتبة أكثر بقاع الدنيا فسادا، وسرقات لصوص بغداد مختلفة عن غيرها، فهى تجرى جهارا نهارا، وبتريليونات الدولارات، وبغير رادع من نظام، فالبرلمان تتواطأ أقطابه، والنظام القضائى منهار تماما، و«هيئة النزاهة» وكر للفساد، و«مفوضية الانتخابات» لا دور لها غير التزوير المنتظم، وبحسب قانون القوة، الذى تمليه مافيات وميليشيات السلاح، التى تقتسم العوائد مع أمراء النهب والشفط، ولا يبقى من أمارات الدولة سوى بقايا جيش ومؤسسات أمنية، قامت بدورها على أساس «ميليشياوى» طائفى بحت.

محنة العراق أنه صار بلدا بلا دولة، منذ سقطت دولة صدام حسين بالغزو والاحتلال الأمريكى، وتم حل الجيش العراقى الذى كان مؤسسا على مبادئ التجنيد الوطنى العام، ولم تقم بعدها دولة فى العراق، ولا جرت عملية إعادة بناء دولة، بل أقيم هيكل من «الكارتون» المتسخ الممزق، وأقيم نظام صورى لا يعمل، إلا على طريقة إيفيه «إيه رأيك فى النظام» فى إحدى مسرحيات الفنان محمد صبحى، فلم تثبت أبدا فاعليته فى السياسة ولا فى الاقتصاد ولا فى حروب السلاح، فقد سقط ثلث العراق خلال ساعات بأيدى «داعش» أيام المالكى، ولم يعد من هم لحكومات العبادى سوى استعادة الثلث المفقود، وعلى صورة خرائب خالية من ناسها، وبمجازر دموية تفوق الخيال، وتتنافس فيها وحشية الحشود الشيعية مع وحشية «داعش»، وبرايات سوداء وحمراء وخضراء، تدعى وصلا بالنبى أو بالإمام على أو بسيدنا الحسين، وتستحل ارتكاب كل المنكرات والموبقات والفظائع وقطع الرءوس باسم الإسلام، تماما كما يفعل بارونات الفساد ولصوصه فى العاصمة بغداد، يؤلفون الأحزاب الدينية الطائفية، ويجعلون منها بطاقات اعتماد وتمثيل فى أوكازيونات النهب العام، ويكنزون الثروات الحرام، ويشكلون عصابات مسلحة تحميهم، ويتظاهرون بأداء العمل البرلمانى أو العمل الحكومى، يفتتح الواحد منهم حديثه بالبسملة والصلاة على النبى وآل بيته، وتكاد تحسبه يخر ساجدا من فرط التقوى والورع، ثم لا تجد غير الذئاب التى ترتدى ثياب الحملان، والذقون الخفيفة المهذبة التى تتقاطر كأنها خارجة لتوها من مسجد، لا فرق فى ذلك بين حبات المسبحة الشيعية وحبات المسبحة السنية، ولا بين حزب الدعوة الشيعى وحزب الإخوان المسلمين، ولا بين رئيس الوزراء الشيعى و«رئيس البرلمان» سليم الجبورى الذى هو أحد قادة الإخوان.

وفى أجواء العفن والتحلل، وتمزق العراق الذى كان عظيما وموحدا، والذى استحال حطاما وفقرا ودما وهوانا ببركة فساد الأحزاب الدينية الطائفية، فقد يصح فهم معنى ومغزى مظاهرات التيار الصدرى الصاخبة المتكررة، فهى تعبر عن احتجاج مستحق على المصير الذى انتهى إليه العراق وأهله، لكن الاحتجاج الصدرى يبقى أسيرا فى هوامشه، وليس بوسعه أن يحول الاحتجاج إلى حركة تغيير، فقد يكون بوسع مقتدى الصدر أن يعبئ ويحشد، وأن يقذف إلى شوارع بغداد بعشرات الآلاف من الناس المحبطين، والعودة إلى بيوتهم بإشارة إصبع من القائد السيد الدينى، ودون أن يتحقق شىء مما وعدوا به، فأنصار مقتدى الصدر هم أيضا أسرى لجماعة دينية، وحزبه «كتلة الأحرار» حزب دينى، وهؤلاء لا يقدمون حلا، بل هم عرض للمرض ذاته، ولا تداوى جراح العراق بالتى كانت هى الداء الدينى الطائفى.

أنصار مقتدى الصدر هم أيضا أسرى لجماعة دينية، وحزبه «كتلة الأحرار» حزب دينى وهؤلاء لا يقدمون حلا، بل هم عرض للمرض ذاته ولا تداوى جراح العراق بالتى كانت هى الداء الدينى الطائفى

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق