احترامى للحرامى

الأحد، 12 مارس 2017 06:42 م
احترامى للحرامى

لم يفاجأ أحد بإعلان براءة مبارك فى القضية المعروفة باسم «قتل المتظاهرين»، لكن الرئيس المخلوع يظل مدانا من قبل ومن بعد، فقد سبق لمحكمة النقض أن أدانته بحكم نهائى بات فى قضية سرقة أموال القصور الرئاسية، وحكمت عليه مع نجليه علاء وجمال بالسجن ثلاث سنوات، وتغريم ثلاثتهم ١٤٧ مليون جنيه، وهى إدانة سالبة للشرف والاعتبار، وتحصيل حاصل رمزى لما يعرفه المصريون عنه، وعن عهده البليد الراكد الذى نهبت فيه مصر كما لم يحدث فى تاريخها الألفى، وانتهت قصته بثورة شعبية عارمة، خلعته وحكمت بإعدام نظامه الذى لم يعدم بعد.

 

وفى قضية قتل المتظاهرين، أيد حكم النقض قرار محكمة الجنايات فى المرة الثانية، وكان القاضى حسن الرشيدى انتهى فيها إلى الحكم بتبرئة مبارك، فقد احتكم كما يحتكم القضاة إلى الأوراق، والتى تضمنت خطأ قانونيا، فقد أدرجوا اسم مبارك على لائحة الاتهام فى تاريخ لاحق على إدراج الآخرين، وكان ذلك سببا كافيا لعدم قبول الدعوى، لكن القاضى الرشيدى أبى أن يترك القصة ناقصة أو معلقة، وترافع عن الشعب المصرى فى جلسة النطق بالحكم المذاعة على الهواء، وقال الحقيقة ببساطة، وأعلن أنه لم يجد قانونا يحاكم به آثام وخطايا حكم المخلوع فى ثلاثين سنة كبيسة، ولا وجد سبيلا للاقتصاص من جرائم الفساد والاستبداد والنهب والقمع والانحطاط والتدهور والتوريث، وهكذا حرص القاضى على الإدانة القطعية لمبارك وحكمه، حتى وإن لم يجد، فى ظاهر الأوراق بخطأ إجراءاتها، ما يمكنه من إنزال العقاب اللازم فى قضية قتل مئات المتظاهرين، وقد ظلت أرواحهم تصرخ فينا إلى الآن، تطلب الثأر من القاتلين.

 

وقد لا نحب التعليق على أحكام القضاء، ولا حتى على حكم التبرئة، لكن الأسئلة تظل معلقة خارج قاعات المحاكم، والحقيقة تظل تائهة، فلم تجر إدانة متهم ما فى قضية قتل المتظاهرين، ولا جرى القصاص العادل لدم شهداء ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وقد يقولون لك، إن الإخوان هم الذين قتلوهم، لكن أحدا فى السلطات القضائية المعنية لم يتهم الإخوان، ولا جرى إعداد قرار اتهام ضد أحد من الإخوان فى الموضوع، وهو ما يفاقم الحيرة والبلبلة، ويراكم شكوكا لا تجد يقينها، ويبرز الطابع السياسى المحض للقصة كلها، وراجعوا من فضلكم ما جرى منذ أول لحظة للثورة، فقد جرى خلع مبارك بعد ١٨ يوما من التظاهر فى ميدان التحرير، لكن مبارك وأهله ظلوا مطلقى السراح، يروحون ويجيئون بكامل حريتهم على مدى شهرين بعد الخلع، ولم يجر القبض عليه مع نجليه ورجاله إلا بعد ستين يوما، ظل خلالها رجل مبارك الأول زكريا عزمى فى عمله كالمعتاد بديوان الرئاسة، وكانت الفترة أكثر من كافية لإعدام أى دليل يثبت أى تهمة قضائيا، ولتهريب الأموال بالمليارات عبر وسطاء إلى الخارج، ولظهور مبارك على النحو الذى ظهرت عليه فى الجلسات القضائية، وبعد أن تقررت محاكمته تحت ضغط المظاهرات المليونية، فقد ظهر مبارك فى المحاكمات إياها على طريقة إسماعيل ياسين فى فيلم شهير، وكان بوسعه أن يردد مع إسماعيل ياسين إيفيه «فتشنى فتش»، ناهيك عن طريقة إعداد قرارات الاتهام، وقد بدا الاضطراب المقصود فيها ظاهرا، وكانت العملية كلها مثقوبة، وتؤدى بالحتم إلى نهايات التبرئة بالجملة، وهو ما توقعناه من أول يوم، ودون أن يكون للقضاء الجالس ذنب فيه، وبدليل أن قرارات الاتهام التى أعدت فيما بعد، جاءت الأحكام فيها قاطعة بالإدانة، وعلى طريقة إدانة حبيب العادلى وزير داخلية مبارك فى قضية تسخير المجندين، ولا يزال السجال القضائى جاريا فى قضية تبديد مليارات المصروفات السرية، بالإضافة إلى الإدانة النهائية لمبارك ونجليه فى قضية سرقة أموال القصور الرئاسية.

 

وقد انطوت السيرة كلها على خطأ جوهرى مقصود من البداية، فلا يصح إجراء محاكمات عادية عقب ثورة، وإلا جرت إدانة الثورة نفسها، فالثورة بالقانون العادى جريمة قلب نظام حكم، والثورة حدث استثنائى، ينهى نظاما قانونيا ليحل محله آخر، وهو المبدأ الذى جرت مصادرته بعد الثورة، والتصميم على محاكمة مبارك بقوانين وضعها بنفسه، وبدعوى أن العالم لن يعترف سوى بالمحاكمات العادية لا الثورية، وأن الأموال المهربة لن تعود سوى بالمحاكمات العادية، وتواطأ قادة الإخوان مع فقهاء الفلول فى الدعوى المسمومة، وكانت النتيجة على ما نعرف، فلم يعد مليم مما نهب، ولا انتهينا إلى العقاب المستحق للظالمين والفاسدين، ولا جرت القطيعة مع ما كان، وهى الهدف الجوهرى من المحاكمات بعد أى ثورة، أو المحاكمات الثورية، وقد اقترحنا مع الثورة طريقتها المتحضرة، وهى أن تجرى بالقضاة الطبيعيين، وبضمانات التقاضى الكاملة، ولكن بقانون خاص، يجرم ما جرى من نهب اقتصادى وفساد سياسى، وهو القانون الذى افتقده قضاة التبرئة فى محاكمة المخلوع مبارك، وتحايل مجلس طنطاوى على مطلبه، وتظاهر بالخضوع لنداءات الثوريين فى نهايات ٢٠١١، وأصدر ما سُمىَ قانون «إفساد الحياة السياسية»، وقد كان صيغة معدلة من «قانون جريمة الغدر» الذى أصدرته ثورة ١٩٥٢، جرى فيها حذف العقوبات الجنائية، والاكتفاء بعقوبة العزل من المناصب السياسية والوظائف العامة، ولمدة خمس سنوات، وبرغم التخفيف وتليين العقوبات، فلم يحدث ولا مرة واحدة، أن جرى التحقيق أبدا فى واحد من آلاف البلاغات، ولا فى اتهامات الإفساد السياسى، وظلت القصة كلها حبيسة أدراج النيابة العامة، ولم يعزل شخص واحد بحسب نصوص القانون المعطل المغدور، اللهم إلا فى حالات محدودة جدا، جرى فيها العزل كأثر مباشر لعقوبات جنائية صدرت، وعلى طريقة عزل ملياردير التوريث أحمد عز الذى عاد إلى السجن مؤخرا، وعزل مبارك ونجليه، ولأسباب تعلقت بفقدان الاعتبار، وكأثر مباشر للإدانة الباتة النهائية فى قضية سرقة أموال القصور الرئاسية، التى خلعت على المخلوع صفة «الحرامى» بختم النسر، بينما بدا الرجل فى إفلاته من أحكام فى قضية «قتل المتظاهرين»، وكأنه فى وضع تاجر مخدرات، أفلت من العقوبة لخطأ فى الإجراءات.

 

وليس القضاء هو المتهم الأصلى، بل السياسة هى الأصل، وقد ارتكبت السياسة جريمة الغدر بالثورة، وإهدار حكم الشعب بإسقاط النظام، وليس الاكتفاء بخلع رأسه، مع أنه كان يستحق الإعدام ألف مرة، وهذه محنة الثورة فى مصر، وقبلها فى تونس برغم اختلاف التفاصيل، فقد قامت الثورة العارمة بغير قيادة مطابقة لعنفوانها، وبلا حزب سياسى ثورى يقودها إلى غاياتها، ويبلغها أهدافها من موقع السلطة، فلم تصل الثورة إلى السلطة حتى الآن، لا بعد ٢٥ يناير، ولا بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، كانت الحشود المليونية تخلع القلب فرحا، وما إن ينتهى مشهد الثورة، ويحل مشهد السياسة، الذى تسيطر عليه أطياف اليمين الدينى والفلولى والليبرالى، حتى تنقبض الأرواح كمدا، وتعود الحركة دائما إلى الخلف، وتحكم قوى الثورة المضادة، وتعجز الثورة عن التقدم، وتظل يتيمة أسيرة فى القلوب، ومطاردة إلى السجون، أو محاصرة بالقمع والمنع فى وسائل الإعلام، التى يسيطر عليها تحالف مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات المال الحرام، وهؤلاء يسعون جهدهم إلى «تبييض» صورة مبارك، ليس حبا فى المخلوع، ولا أملا فى سلطته الشخصية التى زالت، بل لاصطناع براءة مزورة، و«تبييض» الأموال السوداء، وغل يد أى أحد، يحاول الاقتراب أو المساس بمزايا طبقة الواحد بالمئة، التى شفطت واحتكرت نصف ثروة البلد، فيما لا يبقى لتسعين بالمئة منالمصريين، سوى فتات ربع الثروة العامة، مع فوائض الفقر والمرض والبطالة والبؤس ودواعى اليأس العام.

 

وقد يقال لك، إن المخلوع بلغ من العمر مبلغه، وإنه لا يستحق مزيدا من القسوة، وإنه آن الأوان لكى نغلق ملفه، وهو كلام يبدو وجيها وأخلاقيا لأول وهلة، لولا أنه يتجاهل أصل القصة، فلسنا بصدد شخص عابر فى علاقة اجتماعية، وصار فى حكم «الميت» الذى لا تجوز عليه سوى الرحمة، بل بصدد عنوان على انحطاط مصر التاريخى، وتجريف قلاعها الصناعية وإنتاجية اقتصادها، وتحويلها إلى بلد مدمن لتسول المعونات، غارق فى ديونه وقروضه، وهو ما لا يزال متصلا بأثره إلى الآن، فلا تزال جماعة مبارك من الفرز العاشر تسيطر فى غالب مواقع الحكومة والجهاز الإدارى والبرلمان، ولا نزال بعد فى ظل تحكم النهابين ومماليك المخلوع، برغم تغيرات طرأت فى مراكز السلطة، ونمو دور «رأسمالية الجيش» فى مقابل «رأسمالية المحاسيب» الموروثة عن عهد المخلوع، والذى يطلب البعض الترفق بسيرته، بدعوى أنه كان من القادة العسكريين البارزين فى حرب أكتوبر ١٩٧٣٣، وكان شريكا فى «الضربة الجوية» لإسرائيل، وهذا صحيح تاريخيا، ويحسب له فى سيرته الأولى، لكنه حين صار رئيسا بمصادفات الأقدار التعيسة، قصف مصر بالضربة النووية لا الجوية، وأقعدها بشلل رباعى إلى أن قامت الثورة عليه، واستحق بجدارة وصف قادة العدو له بأنه كان «أعظم كنز استراتيجى لإسرائيل»، وربما لا تكون مصادفة بلا مغزى، أن محاميه المفضل فى المحاكمات كان هو نفسه محامى الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام.

 

ليس فى القصة إذن لا غرام ولا انتقام، وتحت يدنا شريط صوتى مسجل بعد الحكم الأخير، فزع فيه المخلوع عندما ذكر له اسم كاتب السطور «عبدالحليم قنديل»، وما إن سمع الاسم حتى صرخ «ياسااااتر»، وكأنما فاجأه كابوسه، وما من تعليق عندى سوى أن أعبر عن «احترامى للحرامى» المدان بحكم محكمة النقض.

 

تعليقات (1)
صدقت
بواسطة: m
بتاريخ: الأربعاء، 15 مارس 2017 08:01 م

اصدقك مثلك دخل دماغي بالرغم من انني ليس لي اَي اتجاه فأنا حياديه يارب نور بصيره أولي الامر

اضف تعليق