البطل رأفت الهجان

الثلاثاء، 14 مارس 2017 11:08 ص
البطل رأفت الهجان
كتب- إيهاب عمر

خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، لعبت الدراما التلفزيونية المصرية دور مهم للغاية في تربية الوعي الوطني والأخلاقي والتذوق الفني للمواطن، ليس في مصر فحسب ولكن في كل مجتمع ناطق باللغة العربية، ورغم أن هذا ليس دور الفن الرئيسي، إلا أن المتسبب الأول – مع عوامل أخرى يطول شرحها –كان التوجهات الفكرية لكتاب الدراما التلفزيونية التي شكلت هذه الموجة.
 
من يصدق أنه خلال أقل من ثلاث عقود، وعبر شاشة القناة الأولى والثانية فحسب، تم إنتاج وعرض كافة هذه الأسماء التي تعتبر السجل الذهبي لابن جيلنا: ليالي الحلمية، زيزينيا، امرأة من زمن الحب، أبو العلا البشري، أرابيسك، ضمير أبلة حكمت، النوة، الراية البيضا، الحب وأشياء أخرى، الشهد والدموع، وذلك على يد أسامة أنور عكاشة.
 
ذئاب الجبل، الضوء الشارد، الفرار من الحب، حلم الجنوبي لمحمد صفاء عامر، الحفار ورأفت الهجان ودموع في عيون وقحة لصالح مرسي، الثعلب لإبراهيم مسعود، أم كلثوم وبوابة الحلواني لمحفوظ عبد الرحمن.
 
سوق العصر، المال والبنون، غوايش، نصف ربيع الآخر، حياة الجوهري، البر الغربي، الليل وآخره، المرسى والبحار لمحمد جلال عبد القوي.
 
السيرة الهلالية، سامحوني ماكنش قصدي، الطارق، على الزيبق ليسري الجندي، الى جانب أعمال أخرى مثل أبنائي الأعزاء.. شكراً، الفرسان، من الذي لا يحب فاطمة، الوسية، السقوط في بئر سبع.
 
مع بداية الألفية الثالثة ودخول جيل جديدة من الكتابة والمخرجين والتقنيات، وأيضا تغير نفسية واختيارات المشاهدين وانتشار الاعتماد على بث الأقمار الصناعية بدلاً من البث الأرضي ما أنتج عشرات القنوات العامة والمتخصصة، كل هذا إفرز موجات جديدة من الدراما التلفزيونية بداية من الأمر كله لنصوص عدمية وبعضها يعود الى مدرسة ما بعد الحداثة، والتأثر بصعود المادية التجارية في المجتمع.
 
من قلب الجيل الذي تربي على هذه الأعمال أو تأثر بها، ظهر تيار تفكيكي عدمي يرى أن هدم كافة الثوابت سيؤدي إلى شيء ما ثوري، وكان من ضمن الثوابت والتابوهات التي يجب التخلص منها حتى نلحق برحب الحضارة والمدنية على المذهب الثوري هو «الأعمال الفنية الخالدة»!
 
بالطبع وجد هذا التيار سند دولي من نفس الجهات الدولية التي تمول الإرهاب ضد الأمة المصرية، فالهدف واحد ألا وهو ضرب ركائز الخصوصية الفكرية والثقافية والفنية وتفجير مرجعيات المصريين أيا كانت حتى لو فيلم كارتون أوجد فكرة، فهي حرب وجود كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، غرضها نسف هذا الشعب من الوجود، وحرب كهذه لن تدار في ساحات السلاح فحسب، بل لها اجنحة صحفية وإعلامية وثقافية وفنية ورياضية لا تقل خطورة بل وفي بعض الحسابات تكون معركة السلاح في المرتبة الأخيرة من حيث التأثير والاهمية.
 
لذا لا عجب ان تجد صفحات الكاريكاتير (التي يطلق عليها العامة مصطلح كوميكس خطأ) الممولة من قطر وتركيا قد ادمنت السخرية من اعمال الفنان احمد عبد العزيز، رغم أن الأخير هو الأقل مشاركة في الاعمال الفنية المشار اليها في السطور السابقة، إلا أنه من الأكثر تأثيراً في هذه الحقبة، فالمطلوب بدلاً من أن تتحول صرخة «عباس الضو بيقول لا» بوجه المستعمر الإسرائيلي رافضة اندماج هذا الكيان الشاذ في الشرق الأوسط إلى صرخة هزلية نضحك عليها طيلة الوقت.
 
وفى هذا الإطار كان لمسلسلات ادب الجاسوسية النصيب الرئيسي في هذه اللعبة، أن الصراع المصري الإسرائيلي له واقع شديد التعقيد والتشابك، على ضوء حقيقة أن إسرائيل ما هي إلا أداة للاستعمار الجديد بينما مصر لا تقف خلفها قوة عظمى بشكل دائم كما هو الحال مع إسرائيل.
 
وعلى ضوء هذه الحقائق كانت أسرار العمليات الحربية والاستخباراتية دائماً لها ثمن باهظ، حتى تلك التي مر عليها ستة عقود، إذ إن بعض الأسرار، التي استخلصها رجالات المخابرات العامة والحربية من ميادين الحرب والمخابرات مع إسرائيل حتى اليوم لا يعرف صانع القرار في إسرائيل أو أمريكا معرفة مصر بها، وبعض الأساليب والفنيات التي جرت في هذه العمليات السرية حتى اليوم يتم استخدامها أو استخدام نسخ متطورة منها.
 
هذه الحقائق جعل من الصعب على مصر أن تخرج الكثير من بطولات المخابرات والجيش في إطار الصراع المصري الإسرائيلي، وأصبح لكل عملية تخرج إلى النور جهد باهظ في حذف ما يمس الأمن القومي، لذا تعتبر مصر من أكثر دول العالم تحفظاً في سرد سجلات المخابرات والجيش، وقد استغل العدو هذه النقطة وسلط بعضاً من أبناء هذا البلد للمطالبة بالكشف عن هذه التفاصيل تحت ديباجات حرية المعرفة وتقليد القوانين الأمريكية بسرد الأسرار بعد ربع قرن ووجود لجان الجيش والمخابرات في مجلسي الكونجرس.
 
وكافة ما سبق حول أمريكا مجرد ادعاءات، إذ للحكومة الامريكية حق عدم نشر أي وثائق تضر بالأمن القومي حتى بعد مرور 25 عاماً وكثير من الوثائق المنشورة تجد بها نصوص محذوفة ويتم الإشارة إلى ذلك بخطوط بيضاء، أما لجان المخابرات والجيش في الكونجرس فهي لا تناقش التفاصيل والأسرار بل معلومات عامة أغلبها في الأساس هو ما ينشر في الإعلام.
 
وفى الثمانينات والتسعينات تحديداً أخرجت الأجهزة الأمنية في مصر أربعة عمليات غاية في الأهمية، نعرفها إعلاميا ً بـ «رأفت الهجان» وجمعة الشوان والثعلب والحفار، صحيح أن جمعة الشوان والثعلب حققا نجاح كبير، إلا أن رأفت الهجان تحديداً كان له إثر ساحق في نفوس كافة الشعوب العربية، حتى كانت الشوارع تفرغ من المارة بشكل تام في بعض المدن المصرية والعربية وقت بث الحلقة.
 
توفر كافة عوامل النجاح في المسلسل، قصة مستحيلة ومع ذلك قدمت بشكل سلس ومنطقي، رجل عادي ربما تقابله في أي مكان يتحول إلى أسطورة، و رغم الإخراج والنص المميز إلا أن هنالك نقطة حاسمة وضعت هذا المسلسل في مكانته الأسطورية، هو ذلك الحس الوطني الذي بدا واضحاً في أداء كافة أبطال العمل، الإيمان بالقضية الذى يصعب أن تجده في نفوس الغالبية اليوم بكل أسف، ربما هم جيل مختلف عن ما نحن عليه اليوم، ربما لأن البطل فرض روحه على النص وأبطاله، و لكن بلا شك كان هنالك حالة عامة من النبل الوطني في أداء كافة الممثلين جعلت لهذا العمل مكانة فريدة في نفوسنا جميعاً.
 
أدركت إسرائيل منذ اللحظة الأولى خطورة هذا العمل، سواء تلك الشوارع الرئيسية الفارغة في القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، أو إشراف الأجهزة السيادية المصرية على عملية الإنتاج بكافة مراحلها، وفي بادئ الامر نفت إسرائيل القصة كاملة، خاصة أن القصة أعلنت صحفيا ً قبل المسلسل ببضعة أشهر، ولكن الوثائق كانت تخرج الواحدة تلو الأخرى.
 
رفعت على سليمان الجمال من أبناء محافظة دمياط، تعثر في الحياة وقضى طفولة صعبة إلى أن وقع في يد حرس الحدود، ثم تلقفته المخابرات العامة في أولى سنواتها، وتم دسه بين يهود مصر قبل أن يهاجر إلى إسرائيل، وهناك كون شبكة تجسس نقلت لمصر المئات من الأسرار، موعد هجوم العدوان الثلاثي ويونيو 1967 وغيرها، وعقب انتصار 1973 طلب الخروج الآمن من القاهرة وبالفعل تم ترتيب هجرته إلى المانيا حيث قضى سنواته الأخيرة مع زوجته.
 
عقب الكشف عن صور ومراسلات إلى جانب الرسائل الخفية في المسلسل التي يفهم معناها أي ضابط مخابرات في العالم أنه بصدد عملية حقيقية، خرجت إسرائيل برواية مغايرة، انهم كانوا يعرفون كل شيء وأن رفعت الجمال كان عميلا ً مزدوجاً وأنهم مرروا بدورهم معلومات خاطئة للمصريين واستفادوا منه.
وكان مفاجئاً – ورخيصا ً – أن صحفيين وإعلاميين ونشطاء مصريين إلى اليوم يصدقون تلك الرواية الساذجة، إذ إن الجمال سلم مصر خريطة لخط بارليف استخدمت في العبور، وأرسل للقاهرة موعد العدوان الثلاثي والضربة الأولى في يونيو 1967.
 
وبعد ذلك تريد إسرائيل منا أن نصدق أن الرجل كان يعمل تحت أمرتهم، ثم انه كان يعمل في الأراضي الإسرائيلية طيلة الوقت فما هي المعلومات المدهشة التي سوف ينقلها الجمال الى إسرائيل عن مصر بينما هو يعمل في إسرائيل طيلة الوقت! فالجمال لم يكن مطلعاً على أي شيء أصلا عن ما يدور في مصر حتى ينقله الى تل ابيب! وحتى طريقة العمل مع رجال المخابرات المصرية والتقنيات المستخدمة وغيرها ظلت تستخدم بفاعلية حتى بعد سنوات من اعتزاله ما يعني أنه حافظ على الأمانة التي اقسم على حمايتها.
 
أما لو كان الرجل يعمل مع تل أبيب فأن حاجة إسرائيل له كانت سوف تتعظم بعد هزيمة تل ابيب في 1973 ولما سمحوا له بالخروج الآمن قط بل استغلوه في توصيل معلومات خاطئة للقاهرة في مرحلة ربما كانت أكثر أهمية من مرحلة السلاح.
 
ولكن بعيدا ً عن المناقشات المنطقية فأن هنالك وثيقة حسمت هذا الامر منذ سنوات، الا وهي ان رفعت الجمال سجل مذكراته بنفسه ونشرت بالفعل عبر مؤسسة الاهرام في كتاب ضخم منذ سنوات، وقد سلمتها ارملته الألمانية للنشر بناء على طلبه، وأتت مذكرات البطل الراحل متسقة تماما ً مع الرواية المصرية الرسمية، هي وثيقة للتاريخ حاسمة تماما ً امام الأكاذيب الإسرائيلية وعشاق الشعور بالدونية واحتقار الذات الذي أصبحت مصادرهم المعلوماتية اليوم اعلام الموساد وذرعته الصحفية.
 
وبالطبع يستغل كافة المتاجرين بسيرة هذا البطل حقيقة أن الكتاب والعلم في مجتمعنا لا يحظون بالتقدير اللازم، بينما الجهل مقدس لدينا، فلا يتذكر أو ربما لا يعرف أصلا ً أيا من فيالق الحمقى من إعلاميين وصحفيين ونشطاء أن مذكرات رفعت الجمال موجودة بخط يده وأنها نشرت عبر أكبر مؤسسة صحفية في الشرق الأوسط.
 
وفى الحلبة الداخلية كان المطلوب من الشباب الذي شكل يوما ً ظهيرا ً شعبياً للإرهاب تحت مسمي الثورة أن ينسف الحنين للأسطورة، عبر كاريكاتير (كوميكس) ونكات هنا وهناك بعضها يجد طريقه الى الصحف والاعلام بل والمسلسلات والأفلام، فالمطلوب هو الاغتيال المعنوي لرأفت الهجان، المطلوب ألا تصدق أن لك قيمة في أي مجال كان، المطلوب أن تشعر دائما ً بالإحباط وأنه لا فارق في أي شيء وبالتالي تتقبل أسوأ الاختيارات حيال بلدك بصدر رحب.
 
ولكن الحقيقة التي كشفتها مذكرات رفعت الجمال، والحقيقة التي تكشفها كذبة إسرائيل الهزيلة الهزلية أن رأفت الهجان أو رفعت الجمال هو بطل مصري أصيل، ضحي بحلاوة الحياة ودفء الوطن والعائلة من أجل إيمانه برسالته ووطنه، خدع الموساد والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية عبر ثلاثة جولات عسكرية كبرى مرت في الصراع المصري الإسرائيلي، ولما تعب نال الخروج الآمن وعاش ومات على فراشه دون أن يكشفه أحد في عملية استخباراتية نموذجية قلما تجد لها مثيلا ً في سجلات أعتى الاستخبارات العالمية.
 

 

تعليقات (2)
رسالة شكر
بواسطة: Hamdy
بتاريخ: الثلاثاء، 14 مارس 2017 06:14 م

أشكرك ا.إيهاب علي مقالك الجميل...

الفنان أحمد عبد العزيز
بواسطة: مقال
بتاريخ: الثلاثاء، 14 مارس 2017 11:33 م

الفنان أحمد عبد العزيز ليس فقط من الأكثر تأثيرا و لكنه أيضا صاحب النصيب الأكبر من هذا الأعمال المذكورة فى المقال و التى لازلنا جميعا نتذكرها .. فهو صاحب الوسية، ذئاب الجبل، المال والبنون، الفرسان، سوق العصر، من الذي لا يحب فاطمة، و السيرة الهلالية برغم كونه من جيل ظلمه المنتجون كثيرا و لم يتح له فرص كالجيل الذى سبقه و لا حتى الذى تلاه. و هو بلا شك قد ساهم إيجابيا فى تشكيل وجدان هذا الجيل مهما حاول البعض الاستهانة بدوره

اضف تعليق


الأكثر قراءة