صفاء الكومى.. «أم المصريين» المثالية

الثلاثاء، 21 مارس 2017 04:00 م
صفاء الكومى.. «أم المصريين» المثالية
حمدى عبد الرحيم يكتب

بعض الوقائع يكون مقتلها فى التعامل معها بعين الخبر وبشبق السبق الصحفى، واقعتنا تؤكد مجددا أن الأخبار كاذبة والسبق محض ابتذال لمعنى جليل.
 
فإن كان ولا بد من الأخبار فإن سجل وفيات قرية طبلوها مركز تلا بمحافظة المنوفية، قد قيّد فى دفاتره الرسمية رقما جديدا تحت اسم «صفاء على الكومى».
 
هنا سينتهى دور الخبر، الذى يبتذل الفاجعة ويجعل الجليل تافها كأنه ذرة غبار يومى، تكفى ريشة منفضة لتتخلص منها، فلا جذور للغبار.
 
وعندما ينتهى دور الخبر يبدأ دور التاريخ، الذى سيحتفى بالمسكوت عنه، وسيسجل الظلال والألوان، ثم سيصدر حكمه البات النافذ.
 
الخبر يقول إن السيدة الخمسينية صفاء على الكومى، صحت يوميا فوجدت جارها قد انتهك عرض شارعها ببناء متطاول، مستثمرا علاقاته، ومستغلا فوضى مصنوعة، فشكت مرارا للمسئولين، حتى حصلت على قرارين لإزالة انتهاكه، ولكنك فى مصر المحروسة لن يُجلد بطنك ما دام لك الظهر القوى الحامى، لم يتم تنفيذ قرارى الإزالة، فواصلت السيدة مثل جدها الفلاح المصرى الفصيح شكواها، ولكن كل مسئول وضع فى أذنيه الطين والعجين بل والصمغ، فقررت السيدة صاحبة الوعى الفطرى اجتراح المعجزة.
 
أقطع سياق الخبر فأقول إن محافظ المنوفية هو الدكتور هشام عبدالباسط يونس، ولد فى 1 أكتوبر 1971، حاصل على ليسانس حقوق وليسانس الآداب ودكتوراه فى القانون الإدارى.
 
تأمل تلك المعلومة البسيطة وسل نفسك عن محافظ شاب متعلم مثقف درس الحقوق فعرف القوانين نصوصها وروحها، ودرس الآداب فعرف معمار الروايات وموسيقى القصائد، نحن أمام محافظ مفترض أنه مرهف الحس، ولكن.. وما أفدح ما يأتى بعد لكن.
 
نعود إلى صفاء التى تستحق وعن جدارة لقب أم المصريين المثالية، وستحصل عليه ممهورا بتوقيع الوجدان الشعبى، لقد تأكدت أن القانون أعمى وأن العادلة خرجت ولم تعد فلجأت إلى الطلقة الأخيرة فى المواجهة الأخيرة، فصوبت مقاومتها ضد تجاهل رسمى وغيبوبة مجتمعية.
 
أرجوك لا تسألنى عن تعليم السيدة صفاء ولا عن ثقافتها، كما أرجوك ألا تبحر بك الأوهام فتربطها بمنظمة أو حزب أو كيان، السيدة بريئة من كل ذلك.
 
لقد دلتها فطرتها على نوع المقاومة الذى يجب أن تتسلح به فى المواجهة الدامية.
 
السيدة صفاء تصنع معجزتها التى كانت مقصورة على السياسيين، لقد قررت حشد نفسها وأفراد أسرتها إلى ساحة الإضراب عن الطعام. هذا المصطلح «الإضراب عن الطعام» تسمعه من نشرات الأخبار قادما من الأرض المحتلة، وتراه على صفحات الجرائد منسوبا إلى سياسيين أصحاب مطالب كبرى، أو إلى سجناء يريدون حياة تبدو كالحياة، فكيف وصلها المعنى وكيف تجرأت عليه؟
 
التاريخ سيقول: إن السيدة صفاء ابنة حضارتها المقاومة التى تترفع عن الأسر، وتفر من عار الاستسلام، حضارة لخصها عمر المختار - أحد أولادها العظماء ـ عندما قال: «نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت».
 
التاريخ سيقول: إن ثورة يناير التى احتضنتها أمهات الشهداء والمصابين والمفقودين والثوار والمتظاهرين، قد حفرت بعيدا عن أعين المتربصين مجرى جديدا لها، إنه مجرى الوعى الشعبى بالحقوق والواجبات، الثورة ولا شىء غيرها هى التى جعلت السيدة صفاء تؤمن أن من حقها الدفاع عن عرض شارع تسكنه ولا تمتلكه، وأن من واجباتها الذاهب لأبعد نقطة فى المواجهة.
 
الخبر البارد السقيم يقول: إن صفاء وأولادها وحفيدة من حفيداتها وزوجة أحد أبنائها قد قرروا جميعا الإضراب عن الطعام، فلعل مسئولا يلتفت ولعل عدالة غائبة تعود، ولعل ضميرا يصحو، ولعل سيادة المحافظ دارس الحقوق والآداب يعود لطينته الأولى مرهفة الحس فيأمر برفع ظلم له قسوة الموت.
 
أضربت السيدة ثلاثة عشر يوما، فما سمع لها أحد، وما اهتم لجوعها وعطشها أحد، يقينى أنها فى ظلمة الليالى قد شكت لرب الضياء، ويقينى أنه عما قريب سينتصر لدعوتها، وسيقتص لجوعها وعطشها.
 
فلاحة تقودها فطرتها ويقودها مخزونها الحضارى ووعها الشعبى، ثقل عليها الأمر فترنح جسدها الذى كابد المتاعب على مدار سنوات عمرها، فلجأت إلى المستشفى العام وسجلت نفسها مريضة بالبحث عن العدل، وظلت تقاوم إلى أن خذلها جسدها، فنامت نومتها الأخيرة على أمل البعث والحساب وإقامة ميزان العدل الإلهى، وكل ذلك يقين لا شك فيه وقادم لا محالة.
 
لقد تحررت روحها من أسر الجسد، لتلحق بموكب المقاومين، الذين ينتصرون أو يموتون، ولا خيار ثالث، ولسوف تنتصر صفاء ويعلو ذكرها، ولسوف ينتهى انتهاك الجار لعرض شارعها وحرمة بيتها، فسلام على صفاء وعلى أسرتها فى المقاومين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق