محمود محيي الدين: القرارات الاقتصادية التي تتخذ في العالم تمر بثمانية مراحل
الثلاثاء، 21 مارس 2017 11:49 ص
محمود محيي الدين
أكد محمود محيي الدين، النائب الأول لرئيس البنك الدولي ووزير الاستثمار الأسبق، أن القرارات الاقتصادية التي تتخذ في العالم تمر بثمانية مراحل، مشيرا إلى أن أفكار الاقتصاديين وفلاسفة السياسة، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، تظل أكثر عمقاً وقوة مما هو مفهوم منها.
وقال محيي الدين، في مقال له نشر على موقع سكاي نيوز عربية تحت عنوان « دعوة عشاء ما قبل الكساد الكبير»: «قد يكون جون ماينارد كينز هو الاقتصادي الأشهر في القرن العشرين والأكثر تأثيراً أيضاً. ولكينز مقولة شهيرة اقتبسها عنه كثيرون مفادها أن أفكار الاقتصاديين وفلاسفة السياسة، سواء كانت صحيحة أم خاطئة، تظل أكثر عمقاً وقوة مما هو مفهوم منها. و في يقيني أن ما يحكم العالم هو القليل من شيئ آخر غير هذه الافكار».
وأضاف النائب الأول لرئيس البنك الدولي، في مقاله، أن الاقتصاد يحكم بقرارات يعلم متخذوها وناصحوهم أن عملية صنعها تمر بثمانية مراحل: تعريف طبيعة المشكلة، و تجميع البيانات والأدلة والمعلومات، وإعداد البدائل، وتحديد معايير الاختيار بين البدائل (مثل الكفاءة، العدالة، الأبعاد السياسية، الاعتبارات الإجرائية)، وتقدير النتائج للسياسة المقترحة، والترتيب لمواجهة التأثيرات السلبية وتكاليف السياسة المقترحة، واتخاذ القرار، وشرح القرار وأسبابه ونتائجه المنشودة.
وتابع: «لك أن تقدر أن عملية اتخاذ القرار هذه يشترك فيها متخصصون في كل مرحلة وإذا كان القرار يخص اقتصاد دولة، وليس مجرد نشاط لكيان اقتصادي محدود مهما اتسع، فتتعدد المؤسسات والجهات الداخلة في اتخاذ القرار هذا».
وأكمل في مقاله: «و في كل الأحوال تعد المرحلة السابعة المتعلقة باتخاذ القرار التنفيذي هي الأخطر والأهم على الإطلاق لوجوب استيعابها للمراحل الست السابقة عليها وبمصداقيتها تنجح أو تفشل عملية شرح القرار للمعنيين به وهم عموم الناس. و لعلك ترى أن ثمة قرارات هامة قد لا تسير على هذا النهج المنضبط لاتخاذ القرار بمراحله المحددة وتفاعل عناصره للتوصل للقرار الأفضل».
وروى محيي الدين، القصة التي كان كينز نفسه أحد أبطالها، وتغلبت فيها السياسة والأيديولوجية على التحليل المنطقي.
يقول النائب الأول لرئيس البنك الدولي: «ففي مارس من عام 1925 دعا وزير خزانة التاج البريطاني ونستون تشرشل 4 مدعويين لعشاء صغير، لاتخاذ قرار حيوي و خطير بشأن نظام الصرف، ليطرح عليهم تشرشل سؤالاً محدداً هل تعود بريطانيا لقاعدة الذهب، التي تخلت عنها إبان الحرب العالمية الأولى، في تحديد قيمة الجنيه الإسترليني أم لا؟».
ويضيف: «وكان المدعوون، بالإضافة لكينز الذي حضر بصفته الأكاديمية كاقتصادي مرموق، السير أوتو نيماير وهو من كبار موظفي الخزانة في ذاك الوقت، واللورد جون برادبوري الموظف السابق بالخزانة، ورينالد ماكينا وزير الخزانة السابق في فترة الحرب العالمية الأولى».
ويتابع: «كان رأي اثنين من المدعوين، نيماير وبرادبوري، يؤيد العودة لقاعدة الذهب، أما الآخران ماكينا وكينز فكانا ضد العودة لهذا النظام. ويروي السيد غريغ، السكرتير الخاص لتشرشل، وكان حاضراً أيضاً في هذا العشاء، ما نقله عنه أستاذ الاقتصاد ريتشارد غروسمان في كتابه الهام حول الأخطاء في السياسة الاقتصادية وما سببته من كوارث: أن الاثنين المعارضين للعودة لنظام الذهب لم يكونا مقنعين في حديث العشاء، وعلل ذلك بأن كينز نفسه كأحد أهم المعارضين للعودة لنظام الذهب لم يكن في أفضل حالاته تلك الليلة!».
ويكمل: «ربما يكون تشرشل قد توصل فعلاً لقرار بالعودة لنظام الذهب قبل هذا العشاء وأراد فقط اختبار أقصى ما يمكن أن يصل له معارضو قراره من حجج مانعة لتنفيذه، لكن الجانب المعارض لم يوفق لأن كينز لم يكن، لسبب ما، في أفضل حالاته، ولم يكن مقنعاً على غير عادته أثناء هذا العشاء الأخير قبل اتخاذ قرار مصيري».
ويردف: «لقد كانت حجج أنصار العودة لقاعدة الذهب مدفوعة بنوازع أيدولوجية وسياسية يغلب عليها الحنين إلى المجد الاقتصادي والسياسي القديم لبريطانيا عندما تبنت هذا النظام في القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى. أما من كانوا ضد العودة مثل كينز وماكينا فحججهم تمثلت في ارتفاع التضخم أثناء وبعد الحرب وقلة الاحتياطي من الذهب وعدم توافق سعر الصرف الفعلي مع سعره التوازني وقلة تنافسية المنتج البريطاني في الأسواق العالمية وهو ما شرحه كينز في كتيب صغير الحجم بعنوان (الآثار الاقتصادية لمستر تشرشل). ففي الاقتصاد ليس كل العود أحمد، فما يصلح لأحوال زمن قد يخرب أحوال زمن آخر».
ويضيف: «استبسل بنك انجلترا، أقدم بنك مركزي في العالم، في الدفاع عن الإسترليني وفقا لقاعدة الذهب، تحت قيادة محافظه مونتاغو نورمان الذي بقي في منصبه 24 عاماً، في حين كان متوسط بقاء السابقين عليه على مدار قرنين وربع قرن لم يزد على عامين. لم تفلح في النهاية محاولات نورمان في الدفاع عن الإسترليني، رغم رفع أسعار الفائدة لمستويات قيدت النشاط الاقتصادي وسببت ركوداً وكبلت قدرة السياسة الاقتصادية على القيام بدورها».
ويتابع: «وبعد سقوط الإسترليني والخروج مرة أخرى من قاعدة الذهب، كتب نورمان في خطاب لزميل له (ربما كانت العودة لنظام الذهب خطأ). لكن في مثل هذه الظروف سأفعل هذا مجدداً. من السهل أن ترى الأمور بعد حدوثها. لكن الجانب الأكبر مما تم لم يكن حتمياً بل اعتمد على السياسة».
ويضيف: «عودة إلى هذا العشاء الذي تقرر فيه مصير العودة إلى قاعدة الذهب، إذ قال ماكينا الوزير السابق المخضرم و المعارض للعودة لنظام الذهب، بعدما استشف حقيقة التوجه السياسي موجهاً حديثه لتشرشل: (لا مهرب إذن! عليك العودة لهذا النظام، لكنا سنواجه جحيما). وقد كان. فمن الاقتصاديين من يرى أن العودة لقاعدة الذهب سببت الكساد العالمي الكبير الذي امتد بموبقاته من عام 1929 حتى عام 1939».
واختتم وزير الاستثمار الأسبق مقاله بقوله: «ومنهم من يرى أنها إن لم تكن من أهم مسببات الكساد، فهي من أهم عوامل استمراره لزمن طويل. كانت هذه حالة من حالات انتصار الأيديولوجيا على الخبرة والتحليل المنطقي. واليوم، يستند كثير من الاقتصاديين المحدثين لدروس العودة لقاعدة الذهب في تحليلهم لمدى صمود اليورو ومدى اعتماد نشأته و بقائه على الأيديولوجيا».