أدرينالين

الأحد، 26 مارس 2017 01:47 م
أدرينالين
كتب : بيتر رومانى وهيب

أعلم جيدا أنى ثقيل الظل؛ لذلك سأروى ما حدث باختصار.
 
بدأ الأمر حين كنت أمارس هوايتى ومهنتى فى فحص أحد الأطفال، هو طفل فى الرابعة من عمره يعانى من أعراض ذات الرئة الكلاسيكية؛ الحمى والسعال وصعوبة التنفس.. طلبت من الأم أن تضع طفلها على سرير الكشف كى أقوم بفحصه.. ما إن قامت بذلك حتى انتابته أعراض التقمص بالروح الشريرة التى يعانى منها معظم الأطفال؛ أخذ يصرخ كالمجنون ويلوى جسده بقوة ويركل بقدميه بعنف مع سيل من الشتائم.
 
«بس يا ولد عيب!» قالت الأم مصطنعةً الغضب.
 
بعد محاولات جهيدة استطعت تثبيت الطفل وبدأت أفحصه، فجأة وجدته توقف عن السباب والحركة وأخذ شهيقا عميقا ثم سعل فى وجهى بقوة مرتين، شعرت بالرذاذ المتطاير يدخل أنفى، ولا أكون مبالغا إن قلت إنى شعرت أيضا بالميكروب السِبَحى يتسلل عبر ممراتى التنفسية، ويستقر بالحويصلات الهوائية.. أدركت وقتها أنى مقبل على ليالٍ ليلاء.
 
فى نهار اليوم التالى بدأت أشعر بتوعك بسيط، مع حلول المساء بدأت الأمور تزداد سوءًا؛ ارتفعت درجة حرارتى بسرعة وشعرت بآلام فى صدرى مع سعال شديد، ذهبت إلى صديقى طبيب الأمراض الصدرية.. «إنك تعانى من ذات الرئة !».. هكذا قال.. «سوف تنتظم على تعاطى الأدوية التى دونتُها، ثم أراك ثانية بعد أسبوع».. حاضر.
 
إن كنتَ طبيبا فأنت تعرف أن أسوأ صنوف المرضى هم الأطباء أنفسهم، تعاطيت الأقراص والشراب سيئ الطعم لمدة يومين تحسنت خلالهما حالتى فتوقفت عن العلاج، كان منطقيا جدا أن أنتكس بعد يومين آخرين، ترددت كثيرا قبل أن أذهب مرة أخرى إلى صديقى لأنى أعرف ما سيقوله، ولكنى مع وطأة المرض تركت كرامتى فى المنزل وذهبت إليه.. تحملت سخريته وغضبه وتلميحاته السمجة.
 
« هل تظن نفسك طبيبا حقيقيا يا أخصائى الأطفال؟! «صاح فى وجهى ثم أكمل».. «على العموم حالتك سيئة، سوف أحجزك فى المستشفى حتى أُشرف على علاجك بنفسى.. أيها المُلحد !».. لا أعرف على وجه التحديد ما علاقة إلحادى بالميكروب السِبَحى! 
 
لم يكن أمامى سوى أن أنصاع لأوامره، تم حجزى فى المستشفى وبدأت فى تلقى العلاج عن طريق الحقن فى الوريد، قناع الأوكسجين لم يفارق وجهى لمدة ثلاثة أيام متتالية، لم تتحسن حالتى، فقرر صديقى أن يغير المضاد الحيوى إلى الفانكوميسين، أعطانى الحقنة كاملة فى الوريد مباشرة، بعد أقل من دقيقة شعرت بدوار شديد وإحساس بالحكة فى جسدى كله.. هذه معلومة جديدة عن نفسى إذن! أنا أعانى حساسية ضد الفانكوميسين!.. هذه كانت آخر فكرة دارت فى رأسى، ثم غبت عن الوعى.
 
مضى بعض الوقت لا أعلم مدته تحديدا، ولكنى عندما أفقت لم أكن على السرير، ولا حتى على الأرض، بل كنت معلقا فى سقف الحجرة.. ما هذا الذى فعلتموه يا أوغاد؟! كيف تعلقونى هكذا؟! استغرقت فترة قصيرة حتى نظرت إلى الأسفل فوجدت ثلاثة أطباء منهم صديقى مع طاقم التمريض كله، التوتر يبدو على الجميع والهرج والمرج سادا فى الحجرة، تجمعوا كلهم حول السرير.
 
«واحد.. اثنان.. ثلاثة.. نَفَس 
 
واحد.. اثنان.. ثلاثة.. نَفَس 
 
أدرينالين.. المزيد من الأدرينالين!»
 
هكذا أخذ صديقى يصيح فى عصبية، مددت رأسى لأرى الجسد المسجى على السرير، وكانت الصاعقة.. إنه أنا!
 
استغرقت وقتا حتى أفيق من وقع المفاجأة.. هكذا الأمر إذن؛ أنا مت! والأدهى من ذلك أن هناك حياة بعد الموت! هل أنا فى ورطة ما لأنى لا أؤمن بالله؟ أم أنه وعيى الشخصى الذى سرعان ما سيندمج مع الوعى الكونى؟!.. أم أنها مجرد هلوسات نتيجة انخفاض مستوى الأوكسجين وازدياد حموضة الدم؟! دارت فى رأسى كل هذه الاحتمالات المتضاربة، غير أن شعورى بالسلام والحرية كانا يغمراننى، لم أحس هكذا منذ زمن، كأنى كنت أحمل جبل المقطم فوق كتفى ثم أزحته.. ياااااااااه ! يا لها من راحة! ما أجمل الحرية!
 
كنت أتعجب من اهتمامهم بالجسد، أنا هنا يا أغبياء! هكذا صرخت، ولكن لم يسمعنى أحد.. ظللت أراقبهم منتظرا حدوث أمر جديد.. وقد حدث؛ شعرت بنفسى أرتفع شيئا فشيئا حتى إنى اخترقت سقف الحجرة، ثم وجدتنى خارج المستشفى، شعرت ببرودة الطقس، ظللت أرتفع إلى أعلى والأرض تبعد وتصغر، رأيت بلدتى بتفاصيلها كأنى أطالع نسخة حية من برنامج (جوجل إيرث)، صرت أرتفع حتى باتت الأرض فى حجم كرة تنس، انتابنى الفضول لما هو آت.. لكنه كان فضولا مملوءًا بالسلام.
 
رفعت نظرى إلى فوق فرأيت نورا باهرا تجلى من بعيد، ظهرت تفاصيله كلما اقتربت؛ كان نورا أبيض مع زرقة خفيفة لا يؤذى العين؛ حول النور كان ما يشبه شلالات المياه وقوس قزح بألوانه السبعة حول الشلالات، مع اقترابى سمعت أصوات جميلة كموشح أندلسى أو كترتيلة أورشليمية عتيقة، لم أفهم اللغة لكنى انسجمت معها تمام الانسجام، شعرت أن كل كيانى يرتل مع المرتلين، كفت الأفكار عن الازدحام فى رأسى وصار كل شىء منطقيا ومرتبا، ارتفعت أكثر نحو النور ثم توقفت وظللت ناظرا نحوه فى دهشة وحب.. كطفل ينظر إلى أمه.
 
بعد فترة قصيرة توقفت أصوات التراتيل وبدا الجميع مستعداً لحدوث شىء ما، قطع الصمت المهيب صوت رخيم ذو جلال آت من النور قائلا: 
«غَير مُستَعِدّ!»
 
مع الكلمتين شعرت أن كل ذرة وكل خلية فى الكون قد اهتزت انسجاما، بل إنى أنا أيضا أحسست بطرب ما مع أنى أدركت أن الكلام يقصدنى، شعرت أن الكلمتين فوق مستوى الزمن، انتظرت قليلا متوقعا أن أذهب إلى مكان آخر؛ الجحيم مثلا.. لكنى وجدت نفسى أهبط مرة أخرى بنفس سرعة صعودى، صرت أهبط شيئا فشيئا وأبتعد عن النور والتراتيل، بدأت أفقد السلام تدريجيا، ظهرت الأرض من بعيد وأخذت تكبر فى الحجم، اقتربت واقتربت حتى ميزت شوارع بلدتى، بدأت أتبين المستشفى، شعرت ببرودة الطقس.. هى فرصة أخرى لتصحيح المسار إذن!
 
اخترقت سقف الحجرة بالمستشفى مرة أخرى ولكن من الخارج للداخل هذه المرة، فقدت سلامى المكتسب كله تقريبا وازدحمت الأفكار مرة أخرى فى رأسى، وجدت الأطباء والممرضات على حالهم التى تركتهم عليها؛ يقومون فى عصبية بالإنعاش القلبى الرئوى لجسدى الهامد.
«أدرينالين! المزيد من الأدرينالين!»
 
اقتربت أكثر من الجسد، ثم وبطريقة ما اخترقته، بل اقتحمته اقتحاما، أحسست كأنى أُسجن من جديد.. تبا! إنى لأفضل الجحيم على هذا الحبس الانفرادى!
فجأة شهقتُ شهقة غريق خرج لتوه من المحيط الهادى، أفقت ووجدت نفسى مقيدا بالجاذبية الأرضية على السرير وأتصبب عرقا، ما إن حدث هذا وإلا صرخ جميع من فى الغرفة: الحمد لله! الحمد لله!
 
نظر إلىَّ صديقى طبيب الأمراض الصدرية فى فرح وقد بدا عليه الإرهاق الشديد.. تطلع قليلا ثم قال: «حمدا لله على رجوعك، لقد مت لمدة خمس دقائق كاملة.. أيها الوغد!».
 
كنت أشعر بإجهاد شديد وألهث من فرط التعب، أو ربما هو الأدرينالين، شعرت أيضا بألم فى صدرى نتيجة الضغط المتكرر عليه، مرت دقائق قليلة حتى استوعبت كل ما حدث، بعدما جمعت أفكارى أومأت إلى صديقى أن اقترب، مال برأسه نحوى حتى شعرت بأنفاسه الحارة.. رفعت فمى قرب أذنه اليمنى وقلت بصوت مُجهد: «ليس كمثله شىء، ليس كمثله شىء! ».
 
  *    طبيب أطفال

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق