وقفة مع الزمن: مشاعر مواطن مفلس أمام ماكينة الصراف الآلى!

الإثنين، 27 مارس 2017 04:00 م
وقفة مع الزمن: مشاعر مواطن مفلس أمام ماكينة الصراف الآلى!
كتب : محمد حسن الألفى

كان تعاملى الأول مع هذا النوع من الآلات التى تخر نقودا، أثناء اقامتى وعملى فى واشنطن مذيعا بصوت أمريكا. بالطبع سبقها تعامل مع ماكينات تقذف إليك بعلب الكوكا وغيرها من المشروبات، فى مسارات معدنية كالجيوب، بعد أن تدس فيها عملة معدنية من أجزاء الدولار. لكن تجربتى مع صرف الدولار من ماكينة آلية كانت أمتع وأسرع وبلا مفاجآت قط، ذلك كان هناك وزمان، أما اليوم، فقد عرف المصريون هذه الآلات، يتعاملون معها يوميا، وتنوعت الطبقات حتى شملت النخبة وأهل الطبقة المتوسطة ثم عموم الناس والموظفين، كلهم يقفون أمام الآلة لتلفظ إليهم بالمبالغ المطلوبة فى حدود أرصدتهم، وفى حدود ما يسمح به البنك من سقف أقصى.
 
عرفت من خلال ترددى الممل، والله ممل لى وللماكينة، أن مواسم الزيارات العليا تبدأ من يوم واحد فى الشهر حتى الثانى عشر، حين تكون المرتبات 
والمعاشات، حتما موجودة، يصرفونها، ويذهبون بوجوه راضية أو متقبلة القليل الذى خر اليهم. أنا شخصيا  أسعد لحظاتى حين يطالعنى الرصيد دسما، يسد
ديونى وقوت بيتى ومصروف السيارة والأولاد، فأسحبه لأبدده دسما وتسديدا لأبواب وحفر لا تنتهى، شأنى شأن كل مواطن، لم يحالفه حظ الملايين من مذيعى فضاءات الحقبة السوداء، ممن نسوا أنفسهم بعدما كانوا بالشبشب والقبقاب والشرز أو كما كان ينطقها بعضهم فى حوارى قريته الجرز بتعطيش الجيم! أحلى لحظة إذن هى لحظة صوت عد النقود داخل الماكينة ثم افرازها متستفة متستفة، وأنت تنتظرها، أتعس لحظة، أن تذهب إلى الماكينة بعد يوم عشرين، وكلك رجاء أن تلمس أناملك سريعا بشرة الشاشة فتخضع لها كلمة سحب أو استعلام! تلمس البشرة الإلكترونية ثانية.
 
فتطالعك البقايا.
 
أو يطالعك اليأس. إذ لا رصيد! شكلك وأنت منصرف وصارف من أمام الماكينة أول الشهر حتى العاشر منه مختلف تماما وجذريا عن شكلك وأنت منصرف وغير صارف من أمامها. فى الحالة الأولى أنت مشرق ومقبل على الحياة، وجهاز المناعة فعال شغال، يصد عن النفسية أعتى رياح النكد والقرف، وفى الحالة الثانية كأنك خارج لتوك من سرادق عزاء لعزيز راحل! ثمة علاقة وثيقة بين المناعة النفسية ورصيدك بالماكينة. هى علاقة طردية، توجد فلوس إذن توجد قوة، لا فلوس لا قوة، بل يحل هم ويغشاك غم. ساعات ساعات يتراكم لك رصيد جيد، تذهب وتطعم الماكينة طرف بطاقتك الإئتمانية فتشفطها شفطا، وتلفظ إليك ما طلبته من مال. ثانى يوم تفعل الشيء ذاته، وثالث يوم تكرره، وفى كل مرة سيأتيك الشعور بأنك البعيد رذل، ولحوح وأن هذه هى الألفاظ التى لو نطقت الآلة لسمعتها منها، وأنك بلا دم، لا تخجل. ذاك هو الشعور ذاته، حين تقف فى الطابور، بعد يوم عشرين يوجد طابور أيضا، اسمه طابور العشمانين، حتى يأتى دورك لتقف أمام الآلة، ولتنصرف خائب الرجاء مكسور الفؤاد، حاملا ذات الوجه المغموم الذى رأيته فوق عنق من سبقك وسيراه عليك من سيلحق بك من
سكان الطابور، متعشما أن تلفظ له الآلة مالا ولا رصيد لك.
 
حال عجيب، أن تذهب إلى الحنفية، تتوقع منها ماء وأنت تعلم أن الماسورة مكسورة والمحبس محكم الاغلاق، حال عجيب أن تفتش فى الادراج وأنت فتشت
من قبل وموقن أنها خاوية، حال عجيب أن تستعطف آلة مصرفية مدروزة فلوسا، وتطالعك بلسان جاف حارق أن خلي عندك دم ولا تشحت ما ليس لك هنا.
لماذا تفعل بنا ذلك؟ الشحات التقليدى غير الشحات مثلنا! شحات الشوارع أحسن حالا وحظا! أغبطه حقا!
 
الزميل التقليدى كلح وجهه، وعارف أن كثيرين سيدسون له مالا، وهو مجرب الوصفة السحرية الناجعة: الالحاح والدعوات والرذالة حتى يخنقك فتتخلص من الزن بجنيه أو خمسة حسب حالتك.
 
وحسب تأثير الضغط عليك خصوصا لما ينقلب دعاؤه لك إلى دعوات ولعنات عليك.
 
ماكينة الصرف لا تجدى معها التوسلات ولا الدعوات، إذ بماذا ستدعو لها؟ هل ستدعو لها بألا تجوع ولا تنقطع لها كهرباء؟ هذه دعوة لها مستحبة
لأنها متخمة ومتعبة من تراكم الرزم والعملات، وحين يذهب نصف معدتها، يتحسن تنفسها ونومها، أما الكهرباء فتخضها خض، وترسل فى أجزائها
زلزلة كتلك التى تحدث لعامل الحفر يثقب الاحجار والأسفلت، سعادتها اذن هو موت الكهرباء وقلة المدخر بأحشائها توفيرا لجهد العد فى النقد. ولتذهب أنت
الى الجحيم يأ ايها المواطن الشحات. هل ستدعو عليها، هل ستزن عليها، ادع عليها أو زن، فهى حديد وصلب وفولاذ، لم يعرف عن هذه العناصر الاحساس
إلا بالنار!
 
ما كنا كذلك ولا حلمنا بذلك، لولا الفعلة السوداء للحمقى والعملاء والأعباط والفشلة، ممن دمروا الطبقة المتوسطة وألحقونا بطابور المتسولين،
بينما نفر تسامق وانتفخ أموالا وغازات وعقارات ومنتجعات، بسهولة وعهر. فى البيزنس عهر وفى الاعلام عهر، وفى السياسة عهر، وفى الشارع
هل أتاك حديث » ، فجر وتجرؤ واغتصاب للقوانين فريد شوقى الفيشاوى المخطوف فالمقتول والضابط السيادى ورجل الأعمال المحرض وأموال المخدرات
.«!؟ وخناقة توزيع الأرباح البلد تفقلست وفقلستنا معها، وفى القاع سقط أولاد الأصول وإلى السطح طفا الفلين والرغاوى وسقط الأمعاء من مذيعين وصحفيين ورجال مخدرات، يحمل بعضهم لقب رجل أعمال، وهوانم دعارة، يطعموننا الصبر والتصبر ويطلون علينا لامعين منتفخين.
 
ماكينات الصرف خاصتهم تحت الأحزمة، تدق وتعد وتحصى وتخر تخر!
آه يا بلد آه!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق