الرهبنة السياسيّة والانتخابات الفرنسية

السبت، 22 أبريل 2017 10:18 م
الرهبنة السياسيّة والانتخابات الفرنسية
حاتم العبد يكتب

لعلّ كثير منّا يحصُر ويحسُر مصطلح الرهبنة في الشقّ الديني فحسب، فعند سماع كلمة الرهبنة يسترعي الانتباه ويقفز إلى الذهن المفهوم والمدلول الديني للرهبنة وخاصة عند الأخوة المسيحيين، لكن الحقيقة والواقع غير ذلك تمامًا، فالرهبنة مبادرة فردية، قائمة على الاختيار الحر الطليق، بمقتضاهاأن تهب نفسك لشيء ما، قد يكون علمًا أو مكانًا أو ما إلى ذلك، وتكرّس كل وقتك له، بحيث تضحى عنوانًا له، ورمزًا لأهدافه، وعَلمًا لمبادئه، ليس هذا فحسب بل أن تقْبر كل ما يتعارض وما تمليه الرهبنة من شروط وأحكام ومبادئ.

ينسحب مفهوم الرهبنة بهذا المعنى على شتى مجالات الحياة وأنماطها وعلومها وآدابها وفنونها... تعدديّة حالات الرهبنة مرتبط بتعدديّة التخصصات وتنوّعها، ومن بين هذه وتلك نجتبي الرهبنة السياسيّة والرهبنة الأكاديميّة. 

بمناسبة إجراء الانتخابات الفرنسية يوم الأحد القادم، وكما حللّنا من قبل في سلسلة مقالات، وافريّة حظوظ كل مُرشح فيها، وانتهينا إلى أنّ الشاب المارد المتمرد إيمانويل ماكرون يحظى بوافريّة غير مسبوقة للتأهل للدور الثاني والذي يُعقد بين المرشحيّن الحاصلين على أعلى نسبة تصويت بعد أسبوعين من الدور الأول، أي يوم ٧ مايو القادم، ثم حسم الجولة الثانية لصالحه، وذلك في ظلّ استحالة حسم مرشح لنتيجة الانتخابات في الدور الأول، فبعد أن رسخت قواعد الديمقراطيّة في فرنسا، بات من اليقين وأضحى من دامغيّة الحقيقة، الدور الثاني للانتخابات الفرنسيّة.

جمعني بالمارد المتمرد إيمانويل ماكرون أكثر من مناسبة وأكثر من لقاء، ولعلّ آخر لقاء لنا كان في مؤتمر دولي بباريس حول التعاون الاقتصادي بين فرنسا ومصر، وكان من بين الحضور من الجانب المصري الوزير طارق قابيل، ورجل الأعمال سميح ساويرس، ومن الجانب الفرنسي ماكرون باعتباره وزيرًا للاقتصاد وقتئذ، وسفير فرنسا بمصر. رغم حداثة سنه السياسي، إِلَّا أن إيمانويل ماكرون كعادته أبهر الحضور جميعًا، وأظن أنّ كل المصريين الذين كانوا متواجدين في المؤتمر كانوا فخورين بما قاله ماكرون عن مصر، فضلًا عن كونهم فخورين بمصريتهم، واتسمت مداخلته بالدقة والتركيز والتخصصيّة والوعي السياسي فريد النوع والحنكة الدبلوماسية منقطعة النظير. في حين كانت مداخلة الوزير المصري، جدّ متواضعة، غاب عنها بريق الدبلوماسية واللمعان السياسي، ولم يكن حاضرًا بين الوزيرين سوى فرق السن الذي يتعدّى في حده الأدنى عقدين من الزمان. أذكر تلك الواقعة لأدلّل على الرهبنة السياسية، فقد نذر ماكرون نفسه للسياسة، وأعطاها كل وقته، وجلّ تفكيره، وكامل اهتمامه، فأضحى على مشارف قصر الإليزيه، متربعًا على عرش نابليون، وممثلًا لواحدة من كبريات القوى العالمية. حدثّته ذات مرة باعتباره وزير شاب، عن حلمي في أن أرى حكومة من الشباب في مصر، وحكيّت له عن أولى رواياتي حكومة ظلّ والتي لم تكن قد صدرت بعد، والرهبنة السياسية التي أنشدها بها، وكان مبهورًا بالفكرة وطلب مني نسخة من الترجمة الفرنسية لها، ترهبن ماكرون فلم يجد خصومه السياسيين سقطة أو نقيصة ليتسلّلوا منها، للإيقاع به، أو للتأثير على شعبيته الجارفة، والحيل دون تقدمه إلى قصر الإليزيه.

رهبنة ماكرون السياسية، وبعد أن اختارها نمطًا لحياته، وأحسن تجوّيدها، حملته على رأسها، وجعلته يُجيد السباحة ضد التيار، ويقلُب قواعد اللعبة، فالمارد المتمرد لا يؤازره حزب، في بلد الأحزاب، ولم يحدث أن فاز رئيس فرنسي غير منتمي لحزب سياسي من قبل. 

٭٭٭

آلمني كما آلم كل أكاديمي، المسلك المُشين والتصرف البذيء، لأكاديميّة مصريّة، ألا وهو نشر فيديو لها وهي ترقص على سطح بيتها. تناست تلك الأستاذة الجامعيّة ما تفرضه عليها الرهبنة الأكاديميّة من شروط مظهَر ومسلَك ومخبَر، فمن يوم تكليف خريج الجامعةوتعيينه في وظيفة معيد، فإنّه يرتدي ثوب الرهبنة الأكاديميّة، ويلتحِف بعباءة وقارها، ويضحى عنوانًا لقدسيتها، لا مجال هنا للتحجج بالحرية الشخصية، والتذرع بكون الأستاذة الجامعيّة لها مُطلق الحرية كباقي البشر، وأننا لسنا أولياء عليها ولا أوصياء على تصرفاتها، وبمكنتي القول بأنني من المؤمنين بمُطلق الحرية الشخصية، حتى حرية تغيير الدين والمُعتقد، لكن ينبغي فهم الحرية الشخصية في إطارها، فهي حرية مسؤولة، فالمسؤولية لصيقة بالحرية، وهذا ما درجت عليه كافة الأنظمة الديمقراطية في العالم، ولم يشذ عن ذلك أحد. 

للأكاديميّة المصرية أن ترقص وأن تضرب بالدف وتفعل ما يحلو لها، لكن كان لزامًا عليها خلع عباءة الرهبنة قبل تخْرقها، والثوب الأكاديمي، قبل أن تُدنّسه.

وأتوجه بحجة بسيطة للمؤيدين لفعل هذه الأكاديميّة، هل نقبل من راهب أو قسيس أو إمام وخطيب أو حاخام، أن يرقص على قارعة الطريق، وأن يحتسي خمرًا ويتمايل يمنةً ويسرةً تحت عنوان وزريعة الحرية الشخصية؟

يحضُرني موقف منذ سنوات، وفِي أحد الفنادق عندما أصرّ أمن الفندق على مرور قسيس داخل جهاز كشف المعادن، ورفض القسيس الطلب، وخلع زيّه الرسمي، وانتشر الفيديو كالنار في الهشيم، في تلك اللحظة قلت لنفسي ولراهب صديق لي في فرنسا،أنّ من يخلع زيّ الرهبنة الدينية لم يعد برجل دين في نظري، فقد خلع عباءة الكهنوت، كان أحرى به أن يعود أدراجه، ولا أن يهين الزِّي الكريم والرمز الديني الذي يحمله. 

اتباعًا لنفس المبدأ واتساقًا وذات الفلسفة، كان على الأكاديميّة السابقة من وجهة نظري، ألّا تنقض عهد الرهبنة الأكاديمية، وأنّ تبقى مُخلصة لها، وألّا تكون معول هدم لصورة الأستاذ الجامعي، وما يجب أن يكون عليه من هيبة ووقار، كان عليها ألّا تُذيع وتنشر مقاطع الفيديو الراقص. 

ولعلّه غاب عن الأكاديميّة السابقة، أنّ الجامعة تُسمَّى بالحرم الجامعي، وأنّ لهذا الحرم قدسيّة المسجد والكنيسة والمعبد، وأنها مُعلمة ومربيّة أجيال، أتفهم أن يُبدع أكاديمي في مجال أدبي أو فني، ولعلّي أذكر العظيمة المرحومة رضوى عاشور، فكانت أديبة وأكاديمية، ولم يعترض أحد، بل قد تضطر الظروف وتجبر الأكاديمي على رسم لوحة فنية عارية، أو وصف لعلاقة عاطفيّة، وهذا مقبول ما دام في إطار العمل الأدبي أوالفني.

على كل من أراد النجاح، ومن أراد الريّادة في تخصصه ومجاله، أن يُجيد ويجوّد قواعد الرهبنة الخاصة به، تتضاعف المسؤولية، ويتعاظم الحذر، وتتوجّب فائقيّة الحيطة، عندما يتعلق الأمر بالرهبنة السياسيّة ومن باب أولى بالرهبنة الأكاديميّة، لأنهما يشكلان الفكر والوجدان المجتمعي، علّنا نعي! عسانا نُدرك!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق