الدكتور محمد سعيد محفوظ يكتب: شيخ الأزهر الذي لا يعرفه أحد! يجيد الفرنسية ويعرف كلاسيكيات الغناء الغربي.. وينتظر اللحظة التي يعود فيها إلى بيته بين أهله وكتبه بالأقصر

السبت، 24 يونيو 2017 11:40 م
الدكتور محمد سعيد محفوظ يكتب: شيخ الأزهر الذي لا يعرفه أحد! يجيد الفرنسية ويعرف كلاسيكيات الغناء الغربي.. وينتظر اللحظة التي يعود فيها إلى بيته بين أهله وكتبه بالأقصر
محمد سعيد محفوظ والدكتور احمد الطيب

بعد تردد وتفكير طويل، قررت أن أدنو بحذر من خطوطي الحمراء، متحدياً مخاوفي من شبهة المجاملة والانحياز، ومتسلحاً بأقصى درجات النزاهة والموضوعية، كي أكشف عن بعض الملاحظات التي دونتها على مدار عام، جالست وخالطت في معظمه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، خلال تصوير برنامج (الإمام الطيب) الذي تذاع حلقات موسمه الثاني هذه الأيام على عدد من القنوات المصرية والعربية..

حين التقيت به للمرة الأولى في مايو 2016، للاتفاق على شكل البرنامج ونهج الحوار، كنت أتهياً لمقابلة أكبر مرجعية سنية في العالم، وأحد أركان العالم الإسلامي، وأرفع شخصية في المؤسسة الدينية المصرية، تعادل في البروتوكول درجة رئيس الوزراء.. فإذا بي أجد شخصاً سهلاً، متواضعاً، واسع الصدر، يعرض تعاونه فيما يقتضيه البرنامج بمنتهى الأريحية، من تبسيط للغة، وشرح للمعلومة، وميل للدردشة العفوية، وتقبُّل للأسئلة الجريئة، مع اعتبار الشباب الحائر جمهورنا المستهدف في المقام الأول.

عكفت مع أحد الباحثين بالأزهر على جمع شبهات منتقدي الإسلام في أكثر الموضوعات جدلاً خلال الفترة الأخيرة.. بقينا نعمل لعدة أيام في المشيخة حتى ساعات متأخرة من الليل، ورغم اجتهادنا في جمع أجرأ الانتقادات، سواء من الملحدين أو من من بعض كتاب الغرب، فوجئت باتصال من فضيلة الإمام ذات صباح، بعد اطلاعه على نماذج من هذه الانتقادات، يوصيني فيه بمزيد من الجرأة، والبحث عما هو جديد ومفيد للناس، واستبعاد الموضوعات المكررة والبديهية، ومن ثمّ ضاعفتُ من جرأة الأسئلة، وانطلقت في صياغتها وتوجيهها من ارتباك الشباب أمام هذه الدعاوى المحيّرة!

جرت عادة الإمام على أن ينعش ذاكرته في الليلة السابقة على التصوير بمراجعة موضوع الحلقة وإعداد الكتب والمقالات والفقرات التي قد يحتاج للاستدلال بها أثناء الحوار، بينما أذاكر أنا المادة العلمية التي اجتهدتُ في إعدادها بدوري، كما لو كنت مقبلاً على امتحان! كان ينام ساعات قليلة، وكنا نسبقه للمشيخة في السابعة صباحاً، ليبدأ التصوير في العاشرة، وكنت أحظى ببضع دقائق قبل دوران الكاميرا، يشرح لي فيها بعض الجوانب الغامضة في الموضوع، ويعيد الشرح بمزيد من التبسيط إذا التمست منه ذلك، وكأنني في "درس خصوصي"! كنت أحسد نفسي على هذه الفرصة النادرة والثمينة، التي انفردت بها على الأرجح، من بين كل زملائي في المهنة!

ولعلي لا أجد حرجاً في الاعتراف بأني واظبت في مرحلة الإعداد على مشاهدة كثير من حلقات الزميل إسلام البحيري على اليوتيوب، وأعدت صياغة أشد أفكاره جدلاً حول التراث وحُجية السنة في شكل أسئلة لفضيلة الإمام، فأجاب عنها باستفاضة، دون تحفظ، وبمنتهى رحابة الصدر.. أردت أن أختبر دسامة الأفكار والحجج التي ساقها إسلام في برنامجه المثير للجدل، فإذا بالشيخ يعيرها اهتمامه، ويجيب عليها جميعاً دون انزعاج، مهما بلغ مستوى سذاجتها أو تجرؤها.. وتساءلت: ماذا لو كان إسلام البحيري أحسن عرض أفكاره، وتخلى - في سبيل السعي الصادق للعلم والمعرفة - عما اعتبره الأزهر إساءات له وللعلماء؟

كان التصوير يجري بإمكانات السينما، ولم يكن ذلك ترفاً، فقد أردنا أن نخطف الأبصار لتكون طريقنا إلى العقول.. كان أقرب أفراد فريق التصوير إلى الإمام هو فني "الكلاكيت"، وقد أثار عمله فضول الإمام، فحرص في البداية على أن يفهم الغرض من طرْق الكلاكيت على هذا النحو مع بدء كل لقطة، كما كان دائم الاستفسار بروح المتعلم عن تفاصيل كثيرة في التصوير والمونتاج والإخراج.. ثم لا ينسى أن يتعرف على اسم كل زميل، ويتجاذب معه أطراف الحديث الودي، وفي الأيام التالية تجده يسأله عن أبنائه وأسرته، ويداعبه إذا وجده صامتاً.. كان صبوراً ومرناً مع تعليمات المخرج، ويعبر دائماً عن امتنانه وتقديره للجهد المبذول، ويدافع عن متطلبات العمل إذا تعارضت مع التزاماته التي يذكّره بها مساعدوه!

كان كثيراً ما يناقش أفراد الفريق في موضوع الحلقة بعد انتهاء التصوير، ويسألهم عما فهموه واستوعبوه من حديثه، وحين استأذنته في أن أدعو بعضاً من طلابي لحضور التصوير على سبيل التدريب، رحب بالفكرة، مشترطاً أن يكون من بينهم مسيحيون، حتى تعم الفائدة على الطلاب دون تمييز لهم على أساس ديني، وحكي لي وقتها عن مباريات كرة القدم التي ينظمها بيت العائلة، ويجمعون فيها المسلمين والمسيحيين في فريق واحد، كي يفوزوا معاً أو يخسروا معاً..

في موسم هذا العام، كان من بين أفراد التصوير شاب مسيحي.. عرفتُ ذلك بالصدفة حين لمحتُ وشم الصليب على رسغه، وكان ذلك ليلة عيد الزعف، وهي الليلة التي سجلنا فيها حلقة عن المسلمين في الغرب، وكان يفترض بهذا الشاب أن يكون مع أقرانه بالكنيسة للصلاة، لكنه لم يتخلف عن التصوير، ولم يبد أي تململ أو اعتراض.. في اليوم التالي أخبرتُ الإمام بقصته فأثني عليه بود ورفق، وقدم له العزاء في ضحايا الكنائس الأخيرة.. صارحني هذا الشاب في نهاية التصوير بأنه خرج من التجربة برصيد كبير من المحبة لشيخ الأزهر، بعد أن لمس أخلاقه عن قرب..

لم أجد في حياتي عالماً في الدين بهذا الانفتاح على ثقافات الغرب.. من المشاهد التي لا أنساها في كواليس التصوير حين كان يتحدث إلى أحد مستشاريه باللغة الفرنسية، وحين دار بينهما حوار حول إحدى كلاسيكيات الغناء في فرنسا، كما لا أنسى حين أصرّ على أن أتصل له بالإذاعية آمال فهمي في المستشفى، ليعبر عن تقديره لها، ثم يرسل لها باقة ورد في نفس اليوم، وحين كان يتعامل مع الشباب في فريق التصوير بمنتهى الرقة والتبسط وخفة الظل..

لم أسمعه يذكر أياً من منتقديه بسوء.. كان يستحسن الصادقين في سعيهم للحقيقة، ويلوم فقط على المتجاوزين بالإساءة في حق الأزهر، سألته وقت اشتداد الحملة عليه إذا ما كان يخشى عزله، فأمسك بشعرة من ذقنه، وقال لي إن المناصب أهون عنده من هذه الشعرة، وإن مهمته كانت ولا تزال منذ البداية هي تحصين الأزهر من الفكر الإخواني والمتطرف، وحماية استقلاليته واعتداله، وإنه ينتظر اليوم الذي يعود فيه لبيته وكتبه وعائلته في الأقصر، وسيكون هذا أسعد أيام حياته.. اقترحت عليه قبل أيام أن يدعو الصحفيين والكتاب وأصحاب الفكر والرأي إلى حوار حول رؤيتهم لدور الأزهر وملاحظاتهم عليه، فأنا مؤمن بأن الحوار هو أقصر طريق للتغلب على سوء الفهم.. رحب الشيخ بشدة، وقال إن بابه مفتوح، والأزهر هو بيت للجميع.. اشترطت عليه أن نركز في توجيه الدعوة على منتقدي الأزهر أكثر من محبيه، فلم يمانع، واتفقنا على أن يكون هذا اللقاء بعد رمضان إن شاء الله..

سألته عما يتردد عن خلافه مع رئيس الجمهورية، فنفى ذلك بشدة، وعلّق على عبارة "تعبتني يا فضيلة الإمام" بأنها كانت مجرد مداعبة عفوية، وتحدث عن الرئيس بالخير، وأشاد به، بل وطلب من أحد مستشاريه أن يضع في أجندته ضرورة الاتصال به والسؤال عنه في أقرب فرصة..

بعد تعدد اللقاءات، اكتشفت أن الإمام الطيب ليس فقيهاً بقدر ما هو فيلسوف متأمل، لا يميل إلى الإفتاء، بقدر ما يهوى الفكر والمنطق والبحث في المقاصد وغاية الأشياء.. طلبت منه في إحدى الحلقات أن أحاوره بلسان الملحدين، فأساله عمن خلق الله ولماذا خلق الكون، وكيف يغضب، ولماذا يخلقنا ثم يعذب بعضنا ويكافئ البعض الآخر.. رحب دون تردد، ولم يطلب حتى مراجعة الأسئلة لحساسيتها.. حين أبدى أحد الحاضرين قلقاً من بعض هذه الأسئلة، استوقفه قائلاً: واجبي أن أجيب على ما يشغل الناس، لا أن أقول للناس ما يشغلني!

إن الإمام الطيب أبعد ما يكون عن التشدد والمغالاة.. على العكس، هو ينادي بالوسطية، وتحكيم العقل، والحوار، والتعلم، والدولة المدنية.. ليس صحيحاً أنه يؤوي إخواناً في الأزهر، سألته عن ذلك مباشرة، فأكد لي أن الوجود الإخواني بين أساتذة الأزهر انتهى تماماً، ومن بقي منهم في مواقع أكاديمية صغيرة يخضع للملاحظة والتقييم المستمر..

الآن، وأنا أشاهد الحلقات الأولى من برنامج هذا العام، أكتشف أني كنت مبتسماً بانبهار وحب معظم الوقت وأنا منصت إلى إجابات الإمام.. فهل وقعت في غرام المصدر؟ يبدو ذلك.. مهنياً هذا خطأ، ولا أحب أن أكرره! ولو عاد بي الزمن للوراء لما تركت ملامح وجهي تفضح مشاعري تجاه الضيف.. لكن الحقيقة أن فيض البساطة والتسامح والسلام في كلام الشيخ غلب موضوعيتي، حتى استبدل سطوة المذيع، بتواضع التلميذ، وندية المقابلة التليفزيونية، بألفة الحوار الأبوي.. هذا اعتراف بأن الإعلامي يجاهد نفسه في معركة الاعتدال.. يفوز حيناً، ويستعذب الخسارة حيناً آخر!

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق