4 شارع محب

الخميس، 06 يوليو 2017 01:11 م
4 شارع محب
هبه العدوى تكتب :

كان جدي يسكن في منزله المكون من عدة طوابق في المحلة الكبري والذي تطل شرفته مباشرة علي قصر كبير يُدعي قصر الشيشيني.

تقول أمي إنها رأت صباح وعبد الحليم حافظ ولبلبة وشكوكو في إحدى الحفلات داخل حديقته، أما في ليالي رمضان فلقد كان يمتلىء بأناس من كل الطبقات ..عم أحمد كان ضمنهم ..

 كانوا جميعا سواسية، يستمعون للقرآن داخل نفس الحديقة ..

كان المجتمع مترابط هكذا حدثني جدي رحمه الله، الذي كان يعمل والده تاجرا للقطن، أتاه الله من المال ما جعله يعيش في حياة رغدة ممتلكا عربته الخاصة ومنزله الخاص ..

والد جدي كان صديقا للشيشيني صاحب القصر العالي الكبير المترامية أطرافه على شارع محب ..

حيث كان المجتمع يحب بعضه بعضا، وبعد إفلاس والد جدي وخسارته كل ما كان يملك، ظل يسكن نفس ذات المكان مؤجرا وبالطبع ظل صديقه نفس ذات الشخص ..

عم أحمد كان عاملا  في بناء منزل آخر مجاور لمنزلهم والقصر الشيشيني، رأته أمي  يوما يفتح منديله يُخرج منه جبنا وعيش بتاو، جالسا  تحت ظل الأشجار التي زرعها ملاك قصر الشيشيني منهكا بعد يوم عمل طويل ..وجدته يُقبّل يديه حامدا ربه، رافعا رأسه للسماء .. دون أن ينظر لقصر الشيشيني قائلا المقولة الشهيرة: جاتنا نيلة في حظنا الهباب ..

أتسائل ما الفرق بين الماضي والحاضر ؟؟ وكيف كان قصرالشيشيني  يقع بجانب عمارة جدي  بجانب الحجرة الصغيرة لعم أحمد ؟؟

 

كبرنا في المحلة الكبرى .. حيث كانت القصور تقع بين العمارات .. والأغرب أن العمارات كانت تطل على عشش صغيرة ومنازل بسيطة للعمال أو لمساعدي أمي في المنزل في أعمال النظافة .. كان الكل تربطه صلة حب ..

كانت نظرة الجميع للجميع هي نظرة الاحترام ..

كنت ألعب بدراجتي البي أم إكس في شارع منزلنا  أجوب بها وأخي وأصدقائي كل شوارع المحلة الكبرى دون أن تخاف أمي عليّ من تحرش أو خطف ..

ذلك أن (عمو محمد) البقال سيخاف علي مثل ابنته .. وطنط ( أم أحمد ) ستهب تنقذني إذا ما احتجت لها ..

لم تكن للنظرة المادية أو الطبقية أي معني .. كان المعني للغة الاحترام المتبادل والحب .. وفقط ..

 

تحدثني أمي عن إعلان ( حمام جرافينا ) في السبعينات .. تقول إن معه تغير المجتمع المصري .. تطلق الفتاة في آخر الإعلان قبلة تطبعها على سيراميك الحمام .. مُحدِثة رابط شرطي بين شهوة  تغيير الحمام وشهوة الجنس .. هكذا تعلمت في علم النفس داخل  كليتي الصيدلانية ..

ما أّثر التركيز علي  (شهوة التملك وربطها بالجنس ) على قلوب وعقول ولغة الشارع المصري ؟؟

 

في سنة الألفين أرى المغنية تتراقص شبه عارية .. تملأ الكافيهات والقهاوي  في حي شبرا العتيق  .. يلعبون الدومينو والطاولة ويستبيحون النظرة ..

 وشيئا فشيئا مع استباحة النظر وسيطرة الشهوات  .. أصبح المجتمع يعج بالعنف بداية من عنف الكلمة ونهاية بعنف السلاح .. وصولا لعنف رفض أي آخر مختلف ..

 

هاجر أصحاب القصور لكومباوند خاص .. وأصبحت الطبقة الوسطى يجرون خلفهم رغبة في (البرستيج ) والنفوذ .. أما عم أحمد فأولاده بلا مأوى ..

 أتذكر ذهابي لإحدى قرى الصعيد .. حيث لا بناء ولا سقف ولا مكان آدمي لقضاء الحاجة ..

تزادد الهوة إتساعا بين الجميع داخل مصرنا .. بين القصور والعشش التي بلا سقف..

الجميع داخل جزره المنعزل ..بما فيهم المسئولين عن إدارة الثروة البشرية المصرية ..

 

فلم تعطي لأولاد عم أحمد أي أدوات ليغيروا من حالهم .. لا تعليم جيد ولا مشروع ميسرة إجراءته ولا تأهيل نفسي أو تربية دينية ممتلئة بنظرة الرضا مع الطموح والسعي ..

 لم تعطي تلك الأدوات لأولاد عم أحمد ليغيروا حمامهم (هذا إن كانوا يمتلكوا واحدا ) بل أعطتهم فقط إعلانات وجهاز تلفزيون ووصلة دش لينظروا لمعيشة غيرهم، فتتبدل النظرة ..

 

ولم تعطي تعليميا مصريا جيدا لأولاد الأغنياء  ليزدادوا انتماءا وحبا لتراب الوطن .. بل جعلت تعليمك متأخرا متخلفا .. حتي وُصِمت لغتنا العربية عند البعض بأنها :

-(ياااي ..اللي بيتكلم بيها يبقي مش كووول )

أما الطبقة الوسطى فالإجراءات الإقتصادية الأخيرة ستقضي عليها ولو بعد حين..

ولا عزاء لوطن تفتتت أبناؤه وتشتتوا لاهثين خلف المادة لهثا رأسماليا متطرفا ..

 

 كبر أولاد الجميع وصرنا طبقات منفصلة عن بعضها البعض .. بدلا من أن تكون مترابطة ..

تشرذمنا وفقدنا ( لغتنا المشتركة ) ..لغة الحب والجمال والاحترام والرضا ..

يحدثني أصدقائي أن القصور هُدِمت في المحلة الكبري وخرجت مكانها أبراج  .. وأن المحلة الجميلة صارت قبيحة ..

وأن شارع ( محب ) لم يعد كذلك، يبدو أن مصرنا كلها قد صارت ( الكراهية )  لها لغة ..

أما آن الأوان أن يتنصر هؤلاء الذين مازالت قلوبهم ممتلئة بالحب والجمال والرضا للغتهم الراقية التي وحدها قادرة على لململة شَتات هذا المجتمع المصري  ؟؟ !!

الإجابة للمحبين وحدهم ...

 

تعليقات (1)
الجمال جوانا احنا
بواسطة: حسام الدين
بتاريخ: الجمعة، 07 يوليو 2017 11:51 ص

غض البصر دكتورة فعلا احد اسباب السعادة و اقصد به غضه عن كل ما هو لغيري من جنس و مال و اولاد و اتخاذ القدوة الحسنة لبذل الجهد و السعي نحو تغيير الواقع للافضل.

اضف تعليق