من قتل قنطرة التمساحية؟

الإثنين، 24 يوليو 2017 10:00 ص
من قتل قنطرة التمساحية؟
حمدى عبدالرحيم يكتب:

قريتى التمساحية بمركز القوصية بمحافظة أسيوط حالة خاصة بين القرى عامة وبين قرى الصعيد على وجه التحديد، فهى لم تشهد على مدار تاريخها حادث ثأر واحدا، كل مشاجراتها تنتهى سريعًا بكلمة من الحكماء، ونادرًا ما تدهورت مشاجرة إلى حد تدخل الأمن، ثم إن التمساحية تنفق حتى نور عينيها على تعليم أولادها وبناتها، حتى أنها عرفت تعليم البنات قبل نشأة دول مجاورة، وفى هذا السياق أشير إلى وجود أكثر من عشر مكتبات عامرة بأمهات كتب الآداب والفنون فى مكتبات بداخل بيوت التمساحية.
 
كل ما سبق جعل أهالى القرى المجاورة يتندرون على قريتى وأحوالها قائلين: «الأميّ بتاع التمساحية ينفع محامى».
 
أو يقولون: «تلاقى التمسحاوى كل اللى فى جيبه ربع جنيه ويستلف علشان يشترى الأهرام».
 
ومع ثورة يوليو عرفت التمساحية مياه الشرب النقية ونقطة البوليس ومستشفى هو فيلا من طابقين وكانت لها حديقة غناء، والجمعية الزراعية إضافة إلى مدرستين علمتا أجيالا وراء أجيال.
 
ولأن لكل جماعة بشرية أسطورة يتحلقون حولها وتحل فى قلوبهم ووجدانهم محل العقائد الثابتة فإن التمساحية قد اتخذت من القنطرة أسطورتها الخاصة الراسخة.
 
فى عهد محمد على باشا جرت إصلاحات لا تنكر منها إقامة الجسور التى تربط بين القرى وبعضها البعض لمقاومة حالات الطوفان التى كانت تعم الجنوب الصعيدى قبل إنشاء السد العالى، كان من حسن حظ التمساحية إقامة جسر متين لا يزال صامدًا إلى الآن وأصبح الطريق الرسمى المعتمد الذى يربطها بمحيطها، ذلك الجسر كانت به عيون تمر مياه الفيضان منها لتصب فى بحيرة مساحتها تقدر بعشرات الأفدنة، تلك البحيرة هى القنطرة الأسطورية.
 
تخيل معى حال قرية صعيدية، ينعم مدخلها ببحيرة شاسعة المساحة من المياه صافية الزرقة، لا شك أن المدخل سيفعل فعله فى القلوب قبل العيون، هذا المدخل صافى الزرقة سيكون ملعبنا ومجلسنا الذى لا نغادره إلا لنعود إليه، كان الواحد منا إذا أراد تحدى زميله فى مشاجرة طفولية قال له : «نلتقى عند القنطرة».
 
فإذا ما غادرنا طفولتنا فلا بد من أن نتعلم السباحة، أمامنا ساعتها أحد خيارين إما الترع أو القنطرة، ولأن القنطرة أسطورية فإننا نختارها، نسبح حتى تكل أجسادنا، ثم تتحمل قلوبنا توبيخ أمهاتنا اللاتى يقلن: «إن القنطرة بلا قاع فقد اختطف قاعها كبير الجنّ فى لحظة من لحظات غضبه على بنى آدم».
 
موضوع الجنّ هذا يغرينا أكثر بالتوغل فى القنطرة فعلنا نقبض عليه فى يوم من الأيام ويكون فى إصبعه خاتم سليمان!
 
لم يفلح التخويف فى إبعادنا عن القنطرة التى كنا نجلس فوق سورها نتأمل مياهها أكثر من مكوثنا فى بيوتنا، فإذا جاء زمن الشباب والمراهقة فسنريق على سور القنطرة كل قصص الحب وتباريح الهوى.
 
كانت القنطرة حديقة الله التى نباهى بها ونفاخر، كانت القنطرة خالدة ومختلفة كالتمساحية، ليس بالتمساحية قتلى، والقنطرة لم تبتلع أجسادنا رغم مكائد كبير الجنّ، كانت القنطرة كامرأة حنون صاحبة هيبة ومقام ترعى وتحضن فى غير ما ابتذال.
 
ثم عدت إلى بلدى فى نهار صيفى ملتهب قبل خمس سنوات فلم أجد القنطرة متربعة على عرش مدخلها، هل أصرخ طالبًا النجدة أم أنبش الأرض باحثًا عن جثة القنطرة.
 
مّنْ ذا الذى تجاسر على قتل القنطرة ؟
 
قالوا: جاء مستثمر من المجهول واشترى القنطرة من الحكومة وقال إنه سيجعل منها مزرعة سمك عملاقة، فدفنها خلف أسوار عالية متينة، ثم عاد إلى قلب المجهول الذى جاء منه، فما رأينا سمكة واحدة من المزرعة المزعومة وما عدنا نرى من مياهها صافية الزرقة قطرة واحدة.
 
لقد قتلوا القنطرة ولا تزال جثتها ساخنة فى قلبى وقلوب أبناء جيلى.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق