حكاية في كلمتين

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017 10:53 ص
حكاية في كلمتين
حسين عثمان يكتب :

كان الواحد منا إذا عثر على نص فرنك وهو صغير طار من الفرحة، وحين كبرنا أصبح ما يفرحنا أن نعثر على إنسان، أو كلمة طيبة!!.. والحركة كما يقولون بركة، وأن تقص شعرك كل مرة عند نفس الحلاق شيء ممل حقًا، ولم أكن أستقر عند أحدهم، ولم أكن أطمع أن أدخل صالوناً ذات صدفة، فأجد صاحبه إنساناً كالأسطى زكي.. هكذا استهل الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس قصته القصيرة (الوجه الآخر)، ضمن مجموعته القصصية الشهيرة (أليس كذلك؟!)، والتي صدرت طبعتها الأولى عن مركز كتب الشرق الأوسط عام 1958، بينما قرأتها أنا في مرحلة الصبا في طبعتها الصادرة عن مكتبة مصر عام 1985.
 
ولم يكن يوسف إدريس في حياتي إلا الأديب الأقرب إلى قلبي، والمفكر الأقرب إلى عقلي، ولا أبالغ إذا قلت أنه أحد ممن ساهموا برصيدهم الفكري والإبداعي في تشكيل شخصي المتواضع، ولعل أحد عوامل هذا الشغف المحمود، أنني لم أجد تشريحه يوماً لما يدور حولي من وقائع وأشخاص، إلا تشخيص طبيب ماهر، قبل أن يكون سرد قاص مبدع، والدليل الأسطى فتحي المزين، هكذا يناديه الجميع، والذي لم يكن مروره في حياتي إلا مؤثراً، مثلما كان مرور الأسطى زكى في حياة يوسف إدريس، فمعظم ما نطق به الأديب الكبير في سرده عن الأسطى زكى، ينطبق عندي على الأسطى فتحي، بل وأضيف عليه.
 
يصف يوسف إدريس الأسطى زكى فى قصته، فأراه حياً أمامى فى شخص الأسطى فتحى، قصير القامة، سريع الحركة، وفى عينيه ذكاء حاد، لم يكن يرتدى البالطو الذى تعود الحلاقون ارتداءه، كان يرتدى القميص والبنطلون، كالمكوك لا يهدأ، يقص شعرك، وفى نفس الوقت يشتبك فى ثلاث حوارات مع آخرين، أحدهما يدخل معه فى قافية، والثانى يحدثه عن طريقة مبتكرة لعلاج المرارة، والثالث يضحك معه على الإثنين، وينثنى فجأة ويهمس فى أذنى بتعليق أو بكلمة ترحيب، ويسألنى إن كنت فى حاجة لجريدة، ولا ينتظر جوابى، والمقص بين إصبعيه لا يكف عن الطقطقة به لحظة، وكأنه حاو يقوم باستعراض أمام الناس ويريهم معجزة.
 
ومثلما كان الأسطى زكى يقرأ الوجوه والأقفية، ويقطر حكمة على حد رؤية أمير القصة القصيرة، كان الأسطى فتحى كذلك وأكثر، وله حكاية تستحق أن تروى، فهو من عائلة تضرب بجذورها فى عمق حى السيدة زينب، كان الأخ الأكبر لعدد كبير من الأشقاء، ورثوا عن والدهم (صالون مصر)، وكان يقع فى أول شارع زين العابدين الشهير، ويتفرع من الميدان مجاوراً لقسم السيدة زينب، وأضطر الأسطى فتحى ألا يكمل تعليمه، حتى يقف فى الصالون عائلاً لأمه وأشقائه، وقام بدوره فى هذا على أكمل وجه، ولا يزال كبير عائلاتهم متعه الله بالعمر والصحة، وإن كان اعتزل المهنة بحكم السن، وباع المحل منذ سنوات.
 
ولأنه كان شغوفاً بالمعرفة، عوض بها عدم استكمال تعليمه، فأصبح قارئاً نهماً، ومحاوراً فذاً لزبائن الصالون، كان منهم قضاة وأكاديميون وكتاب وأدباء وصحفيون، وانتظم فى شبابه فى حضور صالون العملاق عباس العقاد، اعتاد قضاء نهار الإثنين، عطلته الأسبوعية، فى صحبة كتبه على ضفاف النيل بفندق الميريديان، المعروف الآن بجراند حياة، حتى صار مثقفاً موسوعياً صاحب رؤية بكل معانى الكلمات، مثلت زياراتى له فى شبابى لقص شعرى، رافداً هاماً من روافد تشكيل ثقافتى، شجعنى بقوة حين قرأ كتاباتى الأولى فى مطلع الشباب، وأخذ منى وعداً بأن أكتب عنه حين أصير مقروءاً، واليوم أفى بوعدى، كل سنة وانت طيب يا عم فتحى.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق