كنترول «Z»

الخميس، 21 سبتمبر 2017 12:58 م
كنترول «Z»
هشام السروجي يكتب:

يغزو الشيب تفاصيلنا، يتجعد شغفنا، تتجمد الرغبات وتخبو نيرانها، يتقوس الظهر وتتراخى الأكتاف، بسماتنا خريفية مصفرّه ذابلة الأوراق، نسقط في الهاوية السحيقة، ندور فيها كقطعة ثلج في كأس المدامة حتى نتلاشى في العقد الثالث من العمر.
 
صورة باهته وكلمات تضرب رأسي، تناديني يا "سقيم" أقاومها مرتجفًا، خفقاتي تزلزل صدري، خوف وارتعاد، أصرخ في صمت، للذكرى وجوه عديدة أكرهها جميعًا، كذلك التجربة، أعلم أنها صنعتني لكن أكرهها، تمنيتها حروف على صفحة إلكترونية، أخطئ في كتابتها ثم أضغط  «كنترول Z» وأعود من البداية، حيث السلام.
 
في العودة سوف أقضي على حماقاتي، سأتعلم.. أن ابتساماتي مكابرًا للألم انتزاعًا لإنسانيتي، أن أكابر آلامي كأني أطلق سهما مسموما في روحي دون أن أدري، سأملأ الدنيا بكاء وضجيجا، مقاومتي البكاء تشعرني بأن الكونت دراكولا يغرز أنيابه في عنقي، فأتحول إلى مسخ يقتل كل من يقترب منه، كل من يدنو من حظيرته الكئيبة، كل من يذكره بإنسانيته.
 
أفكار تطرق رأسي في طريق العودة، كنقر أحدهم على ألواح بيانو عازفًا سرينادة "شوبيرت"، النقرات تهمس لي لا تتعجل الشفاء، أن تركض في طريق التعافي انتحار، أرفض الأرقام والأوزان والمسافات، شغف الحياة أثمن من أن يقاس بمقاييس الجمادات، أن تزن الفرح والحزن بالكيلو وتقيسه بالسنتيمتر حماقة، امسح مساحيق الهدوء الكاذب من وجهك، اضرب الأرض بقدمك غاضبًا، اكسرها نصفين وانطلق فى الفضاء السرمدي، الأرض حيز ضيق يخنقني، في طريق العودة الطويل علمتني النقرات أن الأحضان الزائفة أضيق من القبور، أن قبلات الاسترضاء تهبط على الأجساد تحرقها، حتى رجفة الشبق الآتيه من رغبة الجسد دون الروح، تجدها تيار كهربائي صاعق، التواءات الجسد في مضاجعة العاهرات رقصة موت دون موت، أن العقل عدو، أن البوح راحة، أن التمرد حياة، أن لا تتمرد لا تذوق السعادة، أن لا تتألم لا تتعلم.
 
في طريق العودة توقفت رافضًا المضي أو الرجوع، حطمت لوحة المفاتيح كلها، حطمت ضعفي في كنترول Z، وقوتي في كنترول S، لا أريد كليهما، فقط السلام، أن أروح فى ثبات عميق، ثبات لا ذكرى فيه ولا غدٍ، لحظة أن نولد نفقد سلامنا، حتى نقع فى هوة الموت عائدين إلى السلام، في الطريق من وإلى السلام ترجمنا الطموحات دون هوادة، يدهسنا الإتيكيت تحت كعوب أحذية النساء، في مكاتب العمل، في اللقاءات الباردة، تُسحق أجسادنا في صخب السيارات والطرقات المزدحمة، في اتحادها بالأخرين كقطعة لحم نتنه، في اللهث وراء أوراق لا قيمة لها سوى في أرقامها الملونة، في جحيم من الملذات نحسبها نعيم، في ملايين الحروف التي تنطق بها ألسنتنا في محاولة بائسة للحصول على قناعات الآخرين.
 
نقرات الموسيقى في رأسي تهدأ وتسكن، تأتي من الخارج موسيقى لا صوت لها، تستفز كيان أثيري بداخلي فتجذبه، يخرج من جسدي كقطعة حرير تنساب بين نهود عذراء رخامية الملمس، مع كل فراغ يتركه الخروج يدخل مكانه قبس من سلام، أتعجل خروجه، أدفعه دفعًا، حتى يملأني السلام، ينهار الجسد خفيفًا، أنظر للصورة الباهته دون اكتراث، لا خوف ولا كره بعد أن حل السلام، لا أخشى القبل والبعد، لقد فارقت ضيقهما، إلى اتساع لا أعلم كنه، تلاشيت كقطعة ثلج تدور فى كأس النديم، التلاشي هو عين الوجود.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق