عودة «المبلغين» تنذر بمنح الفكر المتطرف قبلة الحياة

الثلاثاء، 10 أكتوبر 2017 04:00 م
عودة «المبلغين» تنذر بمنح الفكر المتطرف قبلة الحياة
عودة المبلغين
هناء قنديل

* ظهورهم أمام السينمات يفاجئ المجتمع

* كواليس رحلة تربية المجاهدين وصناعة رجال «التبليغ والدعوة»

* فرغلى: فكر جماعات الوعظ أرض خصبة لإنتاج العنف

بالتزامن مع اقتراب عيد الأضحى الماضى، كانت تتزايد داخل البيوت المصرية، الرغبة فى قضاء إجازة هادئة، تتمكن فيها الأسر من التقاط الأنفاس، والاستمتاع بأوقات سعيدة؛ تغسل هموما اقتصادية واجتماعية عصيبة.

وفى أجواء هادئة خرج الملايين فى كل ربوع المحروسة، سعيا وراء تحقيق هذا الهدف الأثير، وتمكنت الأغلبية من قضاء أوقات طيبة بالفعل، إلا الفئة التى قررت الاتجاه إلى سينمات وسط القاهرة لمشاهدة أفلام العيد، ليفاجأوا بموقف كان الجميع يعتقدون أنه لم يعد موجودا بمصر.. كانت العيون ترقب الجميع، وتنتقى من يمكن أن يبدأوا به، وفجأة انتشروا وكأنهم برزوا من العدم، ليجد رواد السينمات أنفسهم أمام مجموعة من الشباب، يؤكدون أنهم من «الخارجين فى سبيل الله» لوعظ المجتمع؛ داعين الجميع إلى مقاطعة الأفلام، والابتعاد عن مشاهدة المعاصى!

المفاجأة كانت مدوية، لكن الجميع أدرك سريعا أنهم أمام تدشين لمرحلة جديدة من العمل الميدانى، لجماعات التبليغ والدعوة، والتى كانت ذائعة الصيت فى شوارع مصر، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى.
 
ورغم أن هذه المجموعة من الشباب لم تجد من يستمع إليها، أو حتى من يهتم بالرد على ما تدعو الناس إليه، فإن الموقف كان كافيا جدا لتفجير بركان من الأسئلة فى العقول، كيف تجرأ هؤلاء الشباب على إعادة إنتاج فكر «التبليغ والدعوة»؟ ومن يقف وراءهم؟ وهل ما أقدموا عليه من سلوك بسيط وحالة فردية أم تحرك مرتب وراءه ما بعده؟ 
 
وتعود أهمية مناقشة هذه الأسئلة، وإيجاد إجابات عنها، إلى حقيقة مهمة جدا، هى أن فكر جماعات التبليغ كان الأرض الخصبة التى زرع الفكر المتطرف وجوده عبرها، ثم نما وترعرع، فهل كانت جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية وحتى التكفير والهجرة إلا تنظيمات انطلقت فى البداية بزعم دعوة المجتمع إلى جادة الصواب؟!
 
ولعل من الأمور  المهمة الواجب إلقاء الضوء عليها فى هذه للحظة، هو أن بعض العناصر المتطرفة التى تم ضبطها على مدار الفترة الماضية، أكدوا فى اعترافاتهم أمام الأجهزة الأمنية، أن بداية ولوجهم لدنيا الإرهاب، كانت عبر باب التبليغ والدعوة.
 
«صوت الأمة» تناقش فى هذا الملف، جميع الفرضيات السابقة، لتجيب عن السؤال الأكثر أهمية على الإطلاق، وهو: هل ما حدث أمام السينمات خلال إجازة عيد الأضحى الماضية مقدمة لفصل جديد من الصراع بين المجتمع المصرى وأصحاب الفكر المتطرف؟
 
نشاط يعوض غياب الدولة
خاضت «صوت الأمة» رحلات كثيرة فى عمق قرى مصر شمالا وجنوبا، بحثا عن منابع الإرهاب، وتنقيبا عن أماكن انتشار العناصر المتطرفة، وأبرز طرق استقطاب القيادات للعناصر الجديدة، وخلال تلك الرحلة، الممتدة من قرى محافظات بورسعيد، والإسماعيلية، والشرقية، والغربية والقليوبية، إلى مراكز الجيزة، وبنى سويف، والفيوم، وقنا، وجدنا أنفسنا أمام حقيقة واحدة، وهى أن النشاط المتطرف يعتمد فى إيجاد موطئ قدم له بين الناس، على استدرار التعاطف عبر تلبية احتياجات البسطاء، ومداعبة القلوب بالحديث عن الدين.
 
كان من أهم الثغرات التى لمسناها خلال رحلاتنا فى أعماق القطر المصرى، هو غياب الدولة لسنوات طويلة مضت، عن ممارسة دورها الصحيح، فى حياة الشعب، وهو الدور المتعلق ببناء الشخصية، وتوفير متطلباتها الأساسية، وتأكدنا من أنه لا يجوز للدولة أن تترك هذا الدور لغيرها؛ بحجة أنها غير قادرة، أو فقيرة، فكما أن الدولة بحاجة إلى توفير أدوات الحفاظ على أمنها الداخلى، والخارجى، هى أيضا مطالبة بتوفير اللازم للحفاظ على أمنها الاجتماعى.
 
النشأة والتأسيس
تأسست جماعة التبليغ والدعوة على يد الشيخ محمد إلياس الكاندهلوى بالهند، وانتشرت فى العالم العربى فى سبعينيات القرن الماضى، بالسعودية، والسودان، ثم مصر وسوريا، حتى أنها وصلت إلى الأقليات الإسلامية فى أوروبا، وآسيا.
 
وتعد جماعة التبليغ والدعوة، صاحبة المركز الثانى على سلم الشعبية بين معتنقى هذا النوع من الأفكار بعد السلفية التقليدية المعروفة حاليا، ويصل عدد أعضائها إلى 300 ألف شخص، وتنتشر تلك الجماعة فى مصر وفق النظام الهرمى الذى ابتدعه قادة الإخوان، فالقيادة تتركز فى مناطق، تضم كل منها حلقات، وكل حلقة تضم مجموعة مساجد، ومن كل مسجد تخرج مجموعة دعوة.
 
ويتكون مجلس قيادة الجماعة، الذى يتمركز فى قرية «طموه» بأبى النمرس فى الجيزة، من 7 أمراء، يقودهم شيخ واحد، ويعاونه الباقون، يرأس الشيخ الأمير اجتماعا سنويا عاما، يعقد بإحدى الدول التى تنتشر بها الجماعة.
 
رحلة أسرة فى سبيل التبليغ
تعتبر قرية «طموه»، التابعة لمركز «أبوالنمرس»، فى محافظة الجيزة، أهم مراكز تجمع، المنتمين للتبليغ والدعوة، الذين اختاروا هذا المكان لما يتمتع به من مميزات، أبرزها قربه من جميع الطرق المؤدية إلى الصعيد، وفى الوقت ذاته اتصاله بالقاهرة، بالإضافة إلى رقة حال معظم أبنائه، وتشابه أحوالهم فى التعليم، والفقر؛ الأمر الذى يجعل فرص السيطرة عليهم باسم  الاستقامة والابتعاد عن المعاصى أقوى، فضلا عن استقطابهم بالمساعدات التى هم أحوج ما يكونوا إليها.
تحت راية الخروج فى سبيل الله، يتوافد على مقر جماعة التبليغ والدعوة، بقرية «طموه» أعداد كبيرة من الراغبين فى المشاركة، حتى أن أعدادا كبيرة منهم يصطحبون زوجاتهم.
 
المساجد مراكز الانطلاق
على مساحة ثلاثة أفدنة تقريبا، يقف مجمع ضخم، يضم مبنيين، ومسجد، لإقامة وتلاقى الرجال الخارجين فى سبيل التبليغ، ففى أحد المبنيين يتم استقبال الوافدين الجدد، فيما يتم إعداد أماكن المبيت، داخل غرف المبنى الآخر، أما المسجد فهو للصلاة، وتلقى دروس العلم، وتدريب الدعوة.
ويعد كتاب «رياض الصالحين»، عمدة الكتب التى يتدارسها الخارجون فى سبيل الدعوة، بالإضافة إلى التدريب على إلقاء القصص الدينية المشوقة، بأسلوب بسيط، مع كثرة الحديث فيما بينهم عن حور العين، وما ينتظر المسلمين من نعيم فى الجنة، حتى أن الأمر يصل بينهم إلى التفاكه، وإطلاق الدعابات حول رغباتهم فى هذا المجال.
 
عمل متناسق
ويحرص جميع الموجودين على المشاركة فى العمل، وتنسيق المهام، التى تنقسم إلى خدمة الأبواب، واستقبال الزوار، والعمل فى المطبخ، وتنظيف المسجد، ودورات المياه، وضبط العناصر المندسة، وهى مهمة يتم اختيار رجال من نوع خاص لها، يمتازون بالخبرة بهذه الرحلات، وتكرار الخروج فيها؛ لتمييز التصرفات المعتادة، من الغريبة، حتى يسهل عليهم كشف المندسين الذين يكونوا بين العناصر الجديدة، كما أنهم يحرصون فى الأصل على عدم قبول ضيف جديد، إلا إذ كان موصى عليه من أحد المعارف السابقين.
 
تبرعات سخية
وبعد كل ما سبق يبقى الحديث عن مصادر التمويل، ومن أين يحصل القائمون على المركز على النفقات اللازمة لتدبير الطعام، والاحتياجات الأساسية، والإعاشية، لهذه الأعداد الضخمة، وأسرهم.
 
الخطوة الأولى والأساسية لتدبير نفقات هذه الرحلات، تعتمد على الشخص ذاته حتى يصل إلى مركز التجمع، وهناك ينقسم الأمر إلى شقين الأول، هو أن المركز يضم صندوقا لجمع ما يدفعه المرتحلون أنفسهم من أموالهم لقاء ما يتلقونه من خدمات، فبعضهم قادرون على تحمل جميع التكاليف، والبعض الآخر يدفع جزءا، ويكون على الجميع وضع ما قرروا دفعه فى الصندوق بشكل سرى. 
 
أما الاعتماد الأساسى فى توفير ما يحتاجه المركز من أموال، فيكون عبر التبرعات السخية، التى يدفعها ظاهريا قادة العمل الدعوى، فيما تكون فى أحيان كثيرة، عبارة عن فرع من فروع التمويل التى تتلقاها هذه الجماعات من أباطرة تمويل النشاط المتطرف، داخل البلاد وخارجها.
 
مساجد الدعوة
تضم قائمة أشهر مساجد التبليغ والدعوة مسجد «طموه» بمركز أبوالنمرس فى الجيزة، ومسجد «أهل السنة»، ومسجد بقرية « دموه» بمحافظة الدقهلية، ومسجد «الإسراء» فى 6 أكتوبر.
 
كابول فى مصر
من يدخل إلى مقر  تجمع عناصر التبليغ والدعوة فى طموه، سيشعر أنه انتقل فجأة إلى قلب العاصمة الأفغانية كابول، فالرجال مطلقو اللحى، يرتدون الجلباب القصير، والسروال الذى يرتفع إلى الساق، أما السيدات فالنقاب الأسود الثقيل ولا شىء غيره.
 
ومن الخطأ أن تتصور أن رحلة التبليغ تبدأ فى طموه، إذ إنها تبدأ قبل ذلك بكثير حين يقرر الرجل اصطحاب زوجته، للخروج فى سبيل الله؛ وحينها يكون عليه زيارة مركز التجمع من أجل الحصول على التوزيع المناسب على المنطقة التى سيعمل بها.
 
يدخل الرجل إلى المسجد الكبير فى طموه، وتفارقه زوجته لتدخل من باب النساء، وكل منهما يجد فى انتظاره من يدله على ما يجب أن يفعله، ويبقى الرجل وزوجته فى مكان معد لهما بمنزل أحد شيوخ الجماعة، لكن الزوج مع الرجال، والزوجة مع السيدات، ويستمر بقاؤهما المدة التى يقررها الشيخ، حتى يتم إعدادهما بشكل جيد للمهمة التى وهبا نفسيهما لها.
 
مافيش سياسة
أخطر ما يتعرض له هؤلاء الخارجين فى سبيل الله، من خدع تجعلهم يجزمون أنهم على صواب، هو أن أول تعليمات يتلقونها من شيخهم، تتمثل فى جملة من كلمتين هما «مافيش سياسة»، ومقصدها أنهم رجال دعوة، وهداية وإرشاد، ولا علاقة لهم بالسياسة! 
 
هذه الكلمات تنزل على عقل وقلب هذا الأخ الخارج فى سبيل الله، الماء البارد فى جوف لاهث كاد حر الصحراء أن يقتله، فهو بهذه التعليمات صار فى أمان، بحسب اعتقاده، فلن يتقاطع مع أجهزة الأمن، التى بالضرورة ستتركه يعمل مادام أنه بعيد عن البعبع وهو السياسة.
 
الجهر بالدعوة
وبعد انتهاء فترة الإعداد، تبدأ المرحلة التالية مباشرة، وهى «الجهر بالدعوة»، فيخرج الأخ المرتحل فى سبيل التبليغ، إلى منطقة تم تحديدها له بدقة، وإطلاعه على أبرز ما يمكن وصفه بأنه معاصى يرتكبها الناس فى ذلك المكان، ليتجول يوميا فى توقيتات متفاوتة، بين الأهالى لدعوتهم بالابتعاد عن تلك المعاصى، والعودة إلى المساجد، والصلاة.
 
تستمر رحلة الخارج فى سبيل التبليغ، ثلاثة أيام كل شهر، بإجمالى 36 يوما فى السنة، فضلا عن 4 أيام إعداد، ليتم بذلك ما عليه وهو 40 يوما من الخروج فى سبيل الله، كل عام.
 
وللنساء دور
وخلال رحلة الرجال فى سبيل التبليغ والدعوة، يكون للنساء دور يبدأ عقب صلاة الفجر، حيث الجلوس للذكر والدعاء حتى شروق الشمس، ليؤدين صلاة الضحى، وبعدها تخلد من تريد منهن للنوم، حتى ما قبل الظهر، فتتجمع المشاركات لتناولن الإفطار.
وبعد أداء فريضة الظهر، تتولى اثنتان من المشاركات إعداد الطعام بكميات تكفى الأعداد الكبيرة من الرجال، وذلك كله دون خروج، أو تلاقى من أى نوع بين الرجال، ونسائهن، طوال مدة الرحلة.
 
اعترافات خطيرة تكشف علاقة الجماعة بالإرهاب
رغم أنها واقعة مر عليها نحو ثلاثة عقود، فإن اعترافات العناصر المتهمة بالاشتراك فى اغتيال الرئيس الأسبق، أنور السادات، تكشف بوضوح علاقة جماعة التبليغ والدعوة بالإرهاب؛ إذ إن عناصر الخلية المتهمة فى تلك الجريمة النكراء، اعترفوا بأن بدايتهم، كانت فى جماعة التبليغ والدعوة، وأنهم تلقوا مبادئ الانضمام إلى قطعان المتطرفين، عن طريق هذه الجماعة، التى اعتادت التمويه بأن عناصرها بعيدين عن السياسة.
 
ولم يتوقف الأمر عند اغتيال السادات، خلال الفترة القليلة الماضية، تم الكشف عن خلية تكفيرية شديدة الخطورة، تسمى «لواء المهاجرين والأنصار»، التى اعترف قائدها وهو شاب يدعى إسلام هنداوى، بأنه بدأ رحلته مع التطرف، والإرهاب من جماعة التبليغ والدعوة.
 
«فرغلى»: فكر جماعات الوعظ أرض خصبة لإنتاج العنف
تعليقا على المعلومات المشار إليها أكد الباحث فى شئون الجماعات الإرهابية، ماهر فرغلى أن فكر الوعظ الذى تنتهجه جماعات التبليغ والدعوة، يقود بالضرورة إلى نشأة عناصر مستعدة فكريا، ونفسيا، إلى التطور نحول التشدد والتطرف والتكفير والإرهاب.
 
وأوضح لـ«صوت الأمة»، أن هذه الجماعات تركز على الاعتكاف فى المساجد، حتى يمكن تصفية أذهان أتباعها، وبالتالى تيسر السيطرة عليهم، بعد شحنهم بالوقود الإيمانى اللازم للتسليم بكل ما يتم بثه فى عقولهم.
 
وحول احتمال أن يكون ظهور عناصر التبليغ والدعوة أمام سينمات القاهرة فى العيد الماضى، مؤشر على بدئهم جولة جديدة من العمل الميدانى، قلل فرغلى من أهمية ذلك، باعتبار أنهم فقدوا مكانتهم لدى المجتمع، بعدما ظهر من ازدواجية شيوخهم، وعدم رضا الشعب عنهم.
 
ولفت فرغلى إلى أن الدولة تنبهت خلال الفترة الأخيرة لأهمية دورها فى القضاء على العشوائيات، أو على الأقل تحسين المعيشة، وتقديم خدمات لائقة، وهو ما يصب أيضا فى بوتقة إفقاد هذه الجماعات أسلحتها التى اعتادت أن تستغلها لإيجاد مكان لها فى قلوب وعقول البسطاء. 
 
2
 

3
 
4
 
حادث المنصة

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق