رستم كيلاني.. راهب القصة القصيرة

الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017 08:57 م
رستم كيلاني.. راهب القصة القصيرة
إيهاب عمر يكتب:

خلال الأيام الأولى من عام 1998، كنت منهمكا مع أسرتي في ترتيبات احتفالية نقابة الصحفيين المصريين الخاصة بجدى الراحل شيخ الصحفيين نقيب النقباء صاحب البطاقة الصحفية رقم واحد حافظ محمود، حيث وافق نقيب الصحفيين – وقتذاك – مكرم محمد أحمد على إقامة هذه الحفلة عوضا عن عدم إقامة حفل التأبين لحافظ محمود، عقب وفاته خلال ولاية نقيب الصحفيين إبراهيم نافع، والتي تعد سقطة لا تغتفر لـ"نافع" خصوصا أن حافظ هو آخر مؤسس لنقابة الصحفيين كان على قيد الحياة خلال ولاية مجلس نافع وتوفى في عصر هذا المجلس دون أن يعقد حفل تأبين لشيخهم الراحل.

وأسعدني أن الأستاذ رجائي الميرغني، رئيس اللجنة الثقافية في النقابة، وقتذاك، اهتم بمشاركتي البسيطة في الترتيبات رغم صغر سني، ورغم أن الحفل تضمن دعوة لفيف من الأساتذة، في مقدمتهم الدكتور مفيد شهاب، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، إضافة إلى الراحل الكبير الكاتب الصحفي جلال عيسى، رئيس تحرير آخر ساعة، ووكيل أول نقابة الصحفيين، والدكتورة جيهان رشتي، والدكتورة ليلي عبد المجيد، والدكتور عبد العزيز شرف، وسمير رجب، رئيس مجلس إدارة، ورئيس تحرير جريدة الجمهورية، التي كتب لها "حافظ" طيلة 36 عاما، ورفض مطالب الانتقال لصحف أخرى وفاء للصحيفة التي انتقل للعمل بها عام 1960 حتى وفاته في 26 ديسمبر 1996.

وشاركنا الراحل الكبير، كامل زهيري، الحفل في مرحلته الأخيرة، وكان يفترض لنقيب الصحفيين الأسبق أن يحضر الحفل من البداية ولكن تشاء الأقدار أن يعقد في هذا اليوم معرضه الأول لرسوماته، السر الفني الجميل الذي لم نعرفه عن أستاذنا الراحل إلا في سنواته الأخيرة.

وكنت سعيدا للغاية بمقابلة جلال عيسى، حيث كنت من قراء آخر ساعة، بالإضافة للدكتور شرف أو سندباد الأهرام بالإضافة إلى كامل زهيري، الذي قابلته لاحقا على هامش إحدى ندوات معرض القاهرة للكتاب، ثم تزاملت مع حفيده الزميل عمر زهيري، في الدراسة الجامعية، وعمر هو ابن استاذنا مؤنس زهيري، الكاتب الصحفي بمؤسسة أخبار اليوم.

ولكن ربما أمام هذا المشهد الذي عنونته الصحف باعتباره مظاهرة حب ووفاء من الصحفيين لشيخهم الراحل، كان هنالك مدعوا لم يحضر في هذه الحفل رغم إلحاحي، ولكنه سجل حضورا عظيما في نفسي وقتذاك وإلى اليوم، ألا وهو الأديب الراحل رستم كيلاني.

ورستم كيلاني هو تلميذ مباشر لشيخ القصة العربية القصيرة الأديب العملاق محمود تيمور، وهو من مؤسسي أدب القصة القصيرة في العالم العربي، ولا عجب في ذلك فإن أخيه محمد تيمور، يعتبر صاحب أول قصة قصيرة في العالم العربي، ومن مؤسسي أدب المسرح، ووالدهم هو العلامة أحمد باشا تيمور، وعمتهم هي الشاعرة عائشة التيمورية.

ونشط "كيلاني" في الوسط الثقافي مبكرا، ونشر القصة القصيرة في أكثر من منبر صحفي، كما عمل بالصحافة حينا، خاصة في كتابة مقالات الرأي.

وحينما تقدم العمر بـ"كيلاني"، وبدأ المرض يكثر من زيارته لتلميذ الإمارة القصصية التيمورية، وآخر حراسها، اعتزل الظهور والعمل العام منذ الثمانينات وطيلة ثلاث عقود حتى وفاته، مفضلا أن يقضى وقته في القراءة والكتابة وقراءة القرآن، خاصة كتابة القصص للأطفال، من أجل بث قيم عصره النبيلة للأجيال الناشئة.

لم يتاجر بمرضه، أو يعتمر قبعة مضحكة ويصنع من أشبال الوسط الثقافي أولتراس له، ويجلس يتأوه في شجن بينهم عن مصر التي ضاعت والناس التي لم تعد كالناس والحكومة التي خرجت ولم تعد، ولم يوظف أقدميته الأدبية عنا ليبدو دائما صاحب الحق الأبوي في كل كبيرة وصغيرة.

ولم ينضم إلى جوقة العواجيز إياها التي تلحق اسمها بلقب العم ليصبح عم الوسط الثقافي، لتفاجأ بزملائك الشباب في الوسط الثقافي أو الصحفي يهتفون بحياة عم فلان أو علان في مجالسنا، لتسأل نفسك من أين أتى هؤلاء ومن أين يخرجون علينا وفي نهاية المطاف تكتشف أنك أمام أديب متوسط أو ضعيف فاته القطار أيام جيله ولكن يوظف ما عاصره من أحداث وأيام لكى يلهب حماسة المراهقين ويصنع منهم حواريه ومردييه.

تحولت قصص "كيلاني" إلى كتب كثيرة، وجد بعضها طريقا الى الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، وخلال عامين كنت أزوره باستمرار، عرفت معاني كثيرة في الحياة أكبر بكثير من العمل الصحفي والأدبي، كان رجل نبيل بحق، حينما قدم لي إهداء على أحدث كتبه وقع الإهداء إلى "الأديب الشاب إيهاب أحمد عمر".. وقد استغربت الإهداء فقلت له أنى صحفي ولست أديب.. فأشار إلى أن الصحافة في كافة بلدان العالم إلا في عالمنا العربي تعتبر جزء من الحركة الأدبية وكانت كذلك في مصر لفترة طويلة.

غاب عن رستم كيلاني، بالطبع حقيقة أن من قام بهذا الإقصاء كان جيل الستينات، والحاصل أنه الحركة الثقافية في مصر مثل باقي أركان المجتمع عقب الموجة الرهيبة من الهجرة من المحافظات إلى العاصمة، دخل الوسط الثقافي من لم يجد له عملا، بل ولم يستطع أيضا أن يجارى عمالقة الكتابة وقتذاك، لذا وجودا في النقد الأدبي والتشدد في النقد الأدبي راحتهم لكي يظهروا تفوقهم عن باقي أركان المجتمع ولتعويض نقص أدبي واجتماعي واقتصادي لديهم.

وعلى أثره وإلى اليوم هنالك تشدد رهيب في الوسط الثقافي حيال تعريف مصطلح الأديب والأدب عموما، حيث تم سرقة تلك المصطلحات لصالح أدب الرواية والقصة والشعر، بينما كافة مجالات البحث العلمي والصحفي في جميع بلدان العالم تعتبر من ضمن الحركة الأدبية والثقافية، وإلى اليوم أفاجأ بمن يعرف أنى اقرأ رواية أو قصة ويسألني منذ متى تقرأ (أدب) وانت متخصص في التاريخ! مع إن كافة كتابات التاريخ تلك أدب مثل باقي الآداب!.

لا اعرف ما ردة فعل هؤلاء المشوهين نفسيا وعصبيا إذا ما عرفوا أن العالم الحقيقي والأدباء والنقاد الحقيقيين حول العالم اليوم اعتبروا أن وسائل التواصل الاجتماعي وحالة التدوين المنعقدة على مدار 24 ساعة تعتبر نوع من الآداب وأطلقوا عليها الأدب الذاتي باعتباره لون أدبي ينتمي إلى عالم أدب السيرة الذاتية، وهكذا أصبح كل شخص لديه حساب على فيس بوك أو تويتر أديبا بشكل أو بآخر.

وأن المسألة أبسط بكثير من نفوسهم المريضة والعواء النقدي الذي تجمد منذ ثلاث عقود على الأقل في مكانه فلا استوعب الحراك الثقافي الذي جرى في الثمانينات في اتجاهات مختلفة، أو حقيقة أن الجفاء الأدبي في الثمانيات والتسعينات لم يكن بسبب تمدد الإسلام السياسي أو عراقيل حكومية بقدر ما هو إفلاس لهذه الأجيال، ثم إن الحراك الثقافي الذي بدأ مع القرن الحادي والعشرين حتى اليوم هو فرز طبيعي بعيدا عن قوالبهم الفكرية الجامدة المتجمدة.

ذهبت إلى "كيلاني"، لدعوته إلى احتفالية جدي الراحل، ولم يكن المشوار صعبا حيث نقطن كلانا في جاردن سيتي، وتظل الأقدار تلاعبنا جميعا، حيث أسكن في شارع عائشة التيمورية عمة محمود تيمور، أستاذ رستم كيلاني، بينما كان الأخير يسكن في شارع الحديقة على بعد شارع واحد فحسب من بيتي.

أخبرني "رستم"، ذات مرة أن جاردن سيتي والزمالك قديما كانتا مناطق سكانية مغلقة، وأغلبها حدائق، وأن لها حرس خاص من قبل المحافظة، عبر بوابتها بالخيول الحكومية، قبل أن تتفكك تلك الخصوصية بمرور الوقت، بالطبع لم نفطن كلانا في أواخر التسعينات اننا كنا نتحدث عن أول كومبوند في تاريخ مصر، وأن المدن الجديدة اليوم عامرة بنفس الأسلوب.

لم يتزوج رستم، وظل راهبا في محراب القصة القصيرة، حتى رحل وحيدا عشية يناير 2011 فكانت الأقدار رحيمة بهذا الرجل المرهف النبيل حتى لا يرى سنوات الانفلات الأمني التي عانينا منها في جاردن سيتي حتى بدأ الملف الأمني في الاعتدال بداية عام 2014.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق