لماذا يحتقر يوسف زيدان تاريخه؟

الأحد، 22 أكتوبر 2017 12:00 م
لماذا يحتقر يوسف زيدان تاريخه؟

الحقيقة المشكلة لدى زيدان نفسه، الرجل يشعر شعورًا ليس مريحًا تجاه ذاته، فهو لا يتمتع بشهرته ولا بصيته ولا يشعر بخطورة نفوذه وتأثيره على قرائه، فكل كثير فى عينيه قليل، وكل ناعم بين يديه خشن جارح، وكل بعيد لامع براق، وكل قريب معتم منطفئ، فيروح يخترع المعارك اختراعًا، ولا تهدأ ثائرة نفسه إلا إذا قذف أهله بالطوب، فيرد أهله الصاع صاعًا وليس صاعين، فتسيل الدماء فيجلس زيدان هادئ النفس قرير العين، فأخيرا سالت دماء، وهو لا يشغل باله بأن أول دم يسيل هو دم الحقيقة ذاتها.
 
دم الحقيقة الذى سال هو دم معنى مصر، فما مصر؟
 
مصر ليست سوى المصريين، وتاريخ مصر هو تاريخ المصريين وأبطال مصر هم المصريون، وخونة مصر هم من المصريين، زيدان ومعه جماعة لا يستهان بهم يُحقّرون من شأن تلك الحقيقة التى تقوم مقام البديهيات، فمصر عندهم منفصلة تمام الانفصال عن المصريين.
 
على «زيدان» وجماعته أن يدركوا أنهم عندما يهيلون التراب على تاريخ مصر، فهم يهيلون التراب على ذواتهم، وعندما يحتقرون أبطال مصر فهم يحتقرون أهلهم، على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ويتخلصوا أولا من مشاكلهم هم مع أنفسهم، ثم بعدها نبدأ معهم من أول السطر.
 
الدكتور زيدان ظهر الأسبوع الماضى مع عمرو أديب وقال بيقين يُحسد عليه كلامًا يمس حياة المناضل الزعيم أحمد عرابى.
 
كلام زيدان اليقينى يمكننا تقسيمه إلى قسمين، الأول قوله إن عرابى لم يقل فى مواجهة الخديو توفيق الجملة الذائعة: «لقد خلقنا الله أحرارًا». 
 
الحقيقة، يمكن تفهم نفى زيدان للجملة الشائعة لأنها لم ترد سوى فى مذكرات عرابى، أما المتاح من المصادر والمراجع التاريخية فلم تذكر الجملة بنصها المعروف وإن كانت قد ذكرت ما هو قريب منها بل أشد فى التحدى وأدق فى المعنى.
 
القسم الثانى من كلام زيدان هو نفيه اليقينى لوقفة عرابى ذاتها.
 
وهذا النفى لا يقوم إلا على احتقار زيدان لتاريخه الذى هو تاريخ مصر، الرجل يستكثر على المصريين مجرد وقفة أمام حاكم غاشم جهول مثل توفيق.
كان على زيدان إن كان يريد الإنصاف والتحرى لا «جر شكل» المصريين وإظهار احتقار تاريخهم.. أن يقول لمشاهده إن هناك روايات لها قيمتها واعتبارها تؤكد أن عرابى قد واجه الخديو.
 
قبل تقديمى لمختصر أرجو ألا يكون مخلًا للروايات، أرجو من القارئ الكريم أن يلتفت أولا إلى أن الروايات هى لشهود عيان، وثانيًا هى لكارهى عرابى أو على الأقل غير المرحبين به، وثالثًا تضم الروايات رواية لإنجليزى محتل يجرى حب الاحتلال فى عروقه مجرى الدم.
الرواية الأولى كتبها سليم النقاش، وظهرت لأول مرة فى العام 1884، ثم تكرمت الهيئة العامة للكتاب بإعادة طبعها قبل سنوات قلائل، ولا تزال الرواية تملأ الأسواق.
 
رواية سليم ظهرت تحت عنوان «مصر للمصريين» وجاء فيها: «كانت ساحة عابدين غاصة بجماهير المتفرجين من أجانب ووطنيين ونوافذ البيوت المجاورة للسراى وأسطحها ملأى بالنساء المتفرجات، فأشرف الخديو على الجيش من السلاملك وأمر بإحضار عرابى، فحضر راكبًا على جواده سالًا سيفه ومن حوله ضباط السوارى للمحافظة عليه، فأمره بإغماد سيفه والنزول إلى الأرض وإبعاد الضباط عنه ففعلو، ثم سأله الخديو: ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟
فرد عرابى: «لإسقاط الوزارة، وتشكيل مجلس النواب، وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام».
 
أرجو أن يسامحنى القارئ فيما قمت به من اختصار لأن المساحة لا تتسع لذكر كل التفاصيل المهمة جدًا والمثيرة للغاية.
 
الرواية الثانية صاحبها هو أحمد شفيق باشا وعنوانها «مذكراتى فى نصف قرن»، وهى تملأ الأسواق الآن، وأرجو الانتباه إلى أن أحمد شفيق باشا كان يعمل بالديوان الخديوى وقت أحداث الثورة العرابية، وكان منتميا للخديو وقت الثورة. 
 
جاء فى رواية شفيق: «رأينا الجيش قادمًا من جهة شارع عابدين، وتقدم عرابى راكبًا جواده شاهرًا سيفه وخلفه بعض الضباط، فنزل الخديو إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض إليه من الأخطار، وكان معه السير أوكلاند كولفن المراقب والمستر كوكسن قنصل إنجلترا فى الإسكندرية النائب عن معتمد إنجلترا، ولم يتبعه سوى اثنين من عساكر الحرس الخصوصى أحدهما حسن صادق وكان ضخم الجسم، فلما رأى عرابى شاهرًا سيفه، صاح به: اغمد سيفك وانزل عن جوادك، فامتثل.. ثم خاطبه الخديو بقوله: ما هى أسباب حضورك بالجيش إلى هنا، فرد عرابى قائلًا: جئنا يا مولاى لنعرض على سموك طلبات الجيش والأمة، فقال الخديو: وما هى؟ فقال: هى إسقاط الوزارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب وتنفيذ القوانين العسكرية التى أمرتم بها».
 
أما الرواية الثالثة فمذكورة بتفاصيل أشد إثارة فى كتاب «الكافى  فى تاريخ مصر القديم والحديث»، لصاحبه ميخائيل شاروبيم.
 
وهذا الكتاب كسابقيه موجود فى الأسواق وليس نادرًا، وقد جاء فيه:  «التفت كولفن إلى الخديو وقال إذا تقدم نحوك أحمد عرابى فأمره أن يرد سيفه إلى غمده ويتبعك، فإذا فعل تقدم أنت إلى رأس كل فريق من الجند ومُره بالانصراف.. فقدم الخديو بقلب ثابت وشهامة كبرى وسار نحو أحمد عرابى وعبدالعال باشا وأشار لهما بالسلام فسلما بالاحترام والوقار، فقال لهم «ما لكم نبذتم طاعتى وعصيتم أمرى».
 
 فأجاب عرابى: إنى وإخوانى وجميع ضباط الجيش وأفراد العسكر خاضعون لك يا مولاى وكلنا لا نبرح من هذا الموقف حتى تنجز لنا ما طلبناه.
 
الرواية الرابعة صاحبها هو اللورد كرومر شخصيًا، وقد ظهرت روايته تحت عنوان «مصر الحديثة» وفى ذلك الكتاب ينقل كرومر المحتل ما رواه السير أوكلاند كولفن الذى كان من أبطال المشهد.
 
جاء فى الرواية: «وصل عرابى بك على ظهر حصانه، طلب منه الخديو النزول، فترجل عرابى عن حصانه، وتقدم نحو الخديو ماشيًا على قدميه، مع حرس كبير شاهرين حراب بنادقهم، وحيّوا الخديو. قلت للخديو: الدور عليك الآن، رد عليّ قائلًا: نحن الآن بين أربع نيران، قلت: تشجع، واستشار الخديو ضابطًا وطنيًا كان يقف على يساره، وكرر عليّ السؤال: ماذا أفعل الآن؟ نحن بين أربع نيران. سوف نُقتل. ثم طلب من عرابى بك بعد ذلك أن يغمد سيفه.
 
وأطاع عرابى الأمر، ثم سأل - الخديو- عرابى بعد ذلك عن ذلك الذى يحدث، ورد عليه عرابى بك محددًا ثلاث نقاط، وأضاف أن الجيش جاء إلى ميدان عابدين نيابة عن شعب مصر لفرض هذه النقاط الثلاث، وأنه لن يتراجع إلى ثكناته إلا إذا أجيبت هذه المطالب الثلاثة، تحول الخديو إلى ناحيتى وقال: «أنت تسمع ما يقول، ورددت عليه ليس من اللائق أن يناقش الخديو مسائل من هذا القبيل مع العقداء، واقترحت عليه الدخول إلى قصر عابدين، وأن يتركنى أتحدث مع العقداء، تصرف الخديو مثلما قلت».
 
ختامًا، هل لزيدان أن يكذَّب كل تلك الروايات ويواصل احتقار تاريخه؟

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق