إعلام الخدم وإعلام المثقفين (١-٢)

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017 01:00 م
 إعلام الخدم وإعلام المثقفين  (١-٢)
محمد حسن الألفى يكتب:

تبدو الدولة المصرية الحديثة فى مأزق  تاريخى نادر، بسبب غياب واحد من أهم عناصر قوتها، فى وقت يخوض فيه الشرفاء من أعز أبنائها حرب الدفاع عن الحدود، وعن الداخل، وفى الضمن عن نخبة انتهازية، حرمت هؤلاء الشرفاء المضحين بالأرواح من عقول وأقلام وضمائر اختارت قبلتها الدولار وكعبتها واشنطن، وعواصم الغرب
 
المأزق الذى تتوزع فيه جهود الدولة هو  غياب المثقف الحقيقى فى كل مجالات العمل الوطنى، الموجود هو شكل مثقف، شبه مثقف، لو لدينا مثقف حقيقى، لظهر الإعلام مختلفا، والصحافة مختلفة، والذوق العام مختلفا،  ولقد نذكر بالمرارة والاستغراب، كيف أن مصر بجلالة قدرها ووجدانها القومى الثرى، لم تتمكن من طرح اسم أو اسمين لائقين بها،  إلى اليونسكو، تخرج بهما إلى العالم، وتقول بفخر هذا مثقفى، أقدمه نورا وضميرا وحكمة إلى العالم، بالعافية طرحنا اسم السفيرة مشيرة خطاب، لها كل احترام، لكنها ليست وجها متميزا فى الثقافة، ولا تريخ لها فيها، بل لم نجرؤ على طرح اسم وزير الثقافة ذاته، بل إنك ستبذل جهدا مضنيا، لكى تتذكر اسما واحدا، يمكنك أن تقول هذا مثقف مصر، وهذا مفكر مصر، أو هؤلاء هم ضميرها الإنسانى، وعقلها الراجح، فى السنوات الست الأخيرة، جرت عملية تسويق إعلامية كاملة مدفوعة الأجر والجهد، لبضعة شخوص، تنقلت فى كتب التراث، كما تتنقل الجرذان،  وهاموش المخازن، وامتصت رحيق العته ومرويات الأخيلة والخرافات، وقدمها تجار الفضائيات للناس، بوصفها شخصيات ذات رؤى، وهكذا مضت تفسر التاريخ، وتشرح الواقع، وتفتى للمجتمع وتستحمره، بدعوى أنها صاحبة الاكتشاف العلمى المبهر، ألا وهو قابلية الناس للاستحمار.
 
وفى السنوات التى سبقت حريق الخامس والعشرين من يناير، قبل  ست سنوات، سطعت انتهازية سعد الدين إبراهيم، المحسوب مثقفا بحكم علمه السياسى، فضل وأضل، واستعمل وألقى بافرازاته السامة فى دورات مياه العوام الذين خدعهم!
 
المثقف وعى كامل، وحالة وموقف منطلق من حرص بالغ على سلامة البنيان الوطنى من نواحيه العقائدية والثقافية والجمالية والسياسية والاجتماعية كافة. 
نخبة فيرمونت، ليست نخبة ثقافة، بل هم خدم ساسة، ويشبههم كل الطفح الجديرى، الذى شوه وجه الوطن ولايزال.
 
لكن لماذا ليس لدينا مثقف؟!  السؤال خطأ فى حقيقة الأمر، يجب أن نسأل أين يختبئ المثقف المصرى حاليا؟ 
وهل هو اختباء  طوعى أم قسرى؟ 
هو موجود طوعا وكرها، هو مختبئ تحت ركام الحسرات، وطبقات من السواد والتعتيم والطين، رماها ولا يزال يرميها عليه أشباه الإعلاميين، وأشباه الصحافيين، وأشباه المسئولين، وأشباه المثقفين، والخدم السياسيين!
 
 هو موجود لكنه يعف عن المناكف، ويسمو فوق حاجته، ويرتفع فوق غريزته، لأن من سينازلهم جرذان، المثقف الحقيقى، طاقة تسامح إنسانى لا تنفد، ليس لدينا اليوم العقاد، ولا الحكيم، ولا أنيس منصور، ولا طه حسين، ولا لطفى السيد، ولا سلامة موسى، ولا يوسف إدريس، ولا مصطفى محمود، ولا لويس عوض، ولا نجيب محفوظ، ومئات غيرهم ممن شكلوا بما قدموه القاعدة الأساسية لضمير وطنى جمعى متماسك واثق من نفسه، وقادر على الفرز، وكشف عورات الأشباه الحاليين.
 
  والحق  أن المرء ليدهش إذ يتوقع الناس إعلاما حقيقيا، ينشر الذوق والتأمل والحقيقة، ولا يسعى إلى  استخراج  الصرف الصحى من أحشاء المجتمع، يقدم العناصر الشاذة باعتبارها أهم ما يحتاج الناس إلى معرفة أخباره وتحولاته، كيف تريدون إعلاما راقيا، يرتفع بالذوق العام، ويبنى رأيا عاما رشيدا، بينما الإعلامى نفسه شبه إعلامى، وشبه مثقف، بل شبه مصرى!
 
لا يجوز أبدا تحميل الجهلة فوق طاقتهم، هذا وسعهم الأقصى، لا يوجد على شاشات ولاصفحات الإعلام المصرى، مثقف شارب من عصره وعصور الحضارة، ما يملأ فكره وقلمه، ويزود لسانه بأفضل الاختيارات والنماذج.
 
عفة اللسان تأتى من التربية، والتربية منبعها القراءة والتذوق والحس، لدينا رداحون حاليون بجدارة. المثقف الحقيقى موجود مختبئ فى عفة نفسه، وعزة عقله، وعلو كرامته، ولن يظهر قط، مالم تقم الدولة بتغيير  وجوه خدم السياسة، وتقديم عقول خدم الوطن، تتبدل القنوات، وتنتقل ملكيتها إلى الدولة، لكن الجاهل هناك هو الجاهل هنا. الخادم هناك هو الخادم هنا،  فكأنك ملكته أمرك بفلوسك! هذا الشبه مثقف الشبه إعلامى لن يعطيك سوى المزيد من الانحناء، بينما أنت فى أشد الحاجة إلى من يعقل ويعلم ويثقف ويكون عونا لك، يقنع الناس، ويعلمهم بتضحياتك وبخططك، وبما تبتغيه للوطن. أراجوزات التحريض عبر عصور مبارك ومرسى، لا يزالون يحاصرون كل قلم، وكل عقل وكل فكر بالاقصاء وبالعز، حتى لا ترى الدولة إلا خدم البيوت.
الإعلام  جزء من الثقافة، والإعلام جزء من المثقف، وحين يكون الإعلامى مثقفا، فإنه يخدم السياسة العامة للمجتمع بأفضل وأرقى مالديه من حس فنى ومعرفى، يرتقى بالوجدان، وينشر فى الناس الرهافة والصوت الخفيض.
 
أرأيت يوما  عالما مثقفا يزأر ويجعر ويردح؟ 
العاقل لسانه عاقل، وفكره منساب ، وإعلام الغوغاء لن  يربى الاجماعات من الغوغاء. مع ازدياد تكاثر الدهماء بفعل اختيارات أشباه المثقفين وأشباه الإعلاميين وأشباه المسئولين لا تتوقع خيرا، بل من السفه أن تنتظر تحولات فى أذواق المصريين، وسيتردى الذوق العام والعقل العام إلى مستوى الألفاظ السوقية والمبتذلة، التى لا يخجل هؤلاء الأشباه من ترديدها، بلا خجل، سقط عنهم الحياء بعد أن وقفوا بالنواصى يلوكون اللبان، وقد اصطبغت عقولهم بماكياج العواهر!
إذا كان هذا هو الحال، فكيف يمكن الوصول إلى مخابئ ومكامن ومظان المثقفين تحت الأرض الوهمية التى دفنوا فيها؟ 
 أظن هذا موضوعنا القادم.. انتظرونى.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق