يوسف زيدان.. مخاطر اغتيال مشروع أدبي

الإثنين، 30 أكتوبر 2017 03:01 م
يوسف زيدان.. مخاطر اغتيال مشروع أدبي
حاتم العبد يكتب:

سطرت منذ شهور مقال عنون بـ "مطلقيَّة النسبي ونسبيَّة المطلق"، والذي هو عنوان لكتاب لي كتبته أوائل عام ٢٠٠٦ ويصدر نهاية هذا العام إن شاء الله، أستحضر هذا المقال بمناسبة حالة اللغط والجدل التي صاحبت وستصاحب سلسلة حلقات الدكتور يوسف زيدان مع عمرو أديب والتي تعنون برحيق الكتب ؛ يضاف إلى ذلك ما يعلمه عني أصدقائي من احترامي لفكر وفلسفة يوسف زيدان، وفِي نفس الوقت اختلافي مع هذا الفكر وهذه الفلسفة، ظنًّا منهم بتناقضيّة رأيي وتضاديّة موقفي، هو ما حدا بي لأن أسطر هذا المقال، أيضًا ما تموج به الفضائيات وما تزخر به صفحات الجرائد وما تتنافس فيه مواقع الانقطاع الاجتماعي (التواصل سابقًا)، من حملة شعواء، وإقصاء لنعمة التفكير، ومن عصبية ممقوتة، وتشرنج بغيض، وتقوقع مذموم، وعزلة فرقوية، عقب تلك السلسلة، كل ذلك دفعني للكتابة هذا الموضوع. 
 
شسوع فرق بين الإملاء والدعوة للحوار، بين الجبر والخيار، بين الفرض والنقاش ؛ تابعت بشغفٍ بالغ الحلقة التي أثارت ضجة صاخبة وضوضاء مظلمة، على المستوى الثقافي والشعبي. التأمّل المنصف فيما قاله زيدان، وبعيدًا عن نعرات وقتية، وتشنجات واهية، يجد أن الرجل اعتمد مشروعًا أدبيًّا ثقافيًّا قوامه هو "مطلقيَّة النسبي ونسبيَّة المطلق"، بمعنى أن الرجل يعتدّ بمطلق ما يعتقده، ويكفر بمطلقيَّة الآخر، لكنه احترم نسبيَّته. أي إنه لا يفرض رأيه على الآخرين، هو فقط يدعو لإعمال العقل ولقراءة ما بين أيدينا من موروثات ومخطوطات، لعلّ وعسى نقنع بصوابيّة رأيه، أو ندحضه بالحجة الثابتة والبرهان الدامغ... وما العجب في ذلك ؟!
 
ألم يسير الرجل على نهج الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ؟! في هذا القول، انتصر الإمام لرأيه في مسألة ما وإن لم يصل بها لدرجة المطلقيّة، وفِي ذات الوقت أقام وزنًا وأفرد احترامًا وأظهر تقديرًا لرأي غيره الخطأ المُحتمِل صوابًا. وثيق صلة بمطلقيّة النسبي احترام حرية الآخر في اختياراته، من مسلك ومأكل ومخبر وأسلوب حياة، إن لم تقْنع بهذا وذاك، فذاك حقك، لكن عليك ألا تنسى أنه صواب وحقيقة من وجهة نظر الغير، فلماذا ضاق الكثير زرعًا بما قاله الرجل ؟! ولماذا نقبله من الإمام الشافعي وننكره على يوسف زيدان ؟!
 
بحُسن فهمنا لمُطلقيّة النسبي ونسبيّة المُطلق، سوف ننعم برغد العيش، وبصفو العلاقة، وبقبول الآخر، ومن وتقدير اختياراته، واحترام فكره، ومن تبادل لهذا الاحترام ؛ فبتطببق هذا المبدأ، والذي من مقتضياته أن مرد العدالة القياس على النفس، أن تحترم رأي الآخر وعقيدته، تلك العقيدة الثابت صحتها في جانبه ومُعتقده، والغير ثابت في طرفك مُعتقدك، كذلك الحال ؛ فحقك عليه أن يحترم حريتك في اختيار عقيدتك الفكرية الثابت صحتها من جانبك، وغير الثابت صحتها من جانبه. وباحترام تلك العلاقة التبادلية وبالتنفيذ الأمين لها نُصلح من شأن أحوال مجتمعاتنا الثقافية، ونُبعد خطر التطرّف الفكري، ونقضي على شبح الإرهاب، ونبني حاضرًا متسامحًا، ومستقبلًا آمنًا لأولادنا.
 
المبدأ حرية الاختيار والانتقاء من فكر وفلسفة ومسلك وتجربة وعادات وتقاليد الآخرين ؛ فمتى ثبت نسبيّة الغير في جانبك، يكون بمكنتك اعتناق فكرة من أفكاره والإعراض عن الأخريات، أيضًا يحق لك أن تطبق مبدأ من مبادئه من دون الباقين، أي إنه يحق لك أن تشكل باقة الزهور من بساتين الآخرين ووفق ظروفك مع ضمان احترام المجتمع لك ولخياراتك ومطلقياتك والتي تبقى للمجتمع نسبية.
 
مقالي هذا ليس دفاعًا عن يوسف زيدان، ولا أتفق معه في كل الآراء، لكني أدافع عن مشروعه الثقافي والأدبي، وحقه في أن تُحترم أفكاره، لأن الكلمة مقابل الكلمة، ومجابهة الفكر لا تكون إلّا بالفكر... ومبنى دفاعي عن مشروعه وحقه في رؤية الأشياء من زاوية مختلفة، إنما ينبغ من عقيدتنا الراسخة وإيماننا اليقيني بأن الخروج من عنق زجاجة التغييب والتغيّب الثقافي والحضاري التي نحياها، لن يتأتّى سوى بالتنوع الفكري والاختلاف الثقافي. 
 
الشئ بالشئ يذكر، لقد قرأت روايتين مصريتين بالفرنسية كانت الأولى هي رواية "عمارة يعقوبيان"، لعلاء الأسواني، والثانية رواية "عزازيل"، ليوسف زيدان، الأولى أهدتها لي أستاذة لغويات بجامعة ليون، والثانية أهدتها لي أستاذة فلسفة بنفس الجامعة. لا أخفيكم سرًّا بأني كنت في غاية السعادة، كمصري عربي، حينما لمحت الإعجاب ولمست التقدير من هاتين السيدتين  ومن غيرهن لأدب الأسواني وزيدان. 
 
دعونا نزرع بستاننا الثقافي، يسهم كل من يستطيع بغرس شجرة، دعونا ننوع في أشجاره، ونعدد في فواكهه ؛ فما يروق لي قد لا يروق لك، وما استطعمه قد لا يقوى لسانك على تذوقه، المهم أننا جميعًا نشبع ثقافة ونرتوي فكرًا. 
 
إنّ محاولة اغتيال مشروع يوسف زيدان الثقافي، لهي محاولة مشوبة بالجهل، زاخرة بضيق الأفق، مُبتعدة عن إعمال العقل، دالَّة على قصر ذات اليد وقصرها. إن خطورة اغتيال مشروع يوسف زيدان، هو اغتيال لكل رأي مخالف، وفكر مناقض، وتأسيس للديكتاتورية الفكرية، والانغلاق في فلك الرأي الواحد، وفي ذلك تجنيب للعقل بدل إعماله، واستسهال الرد بالتشويه بدلًا من الرد الموضوعي، وهو ما يزيد حالتنا الثقافية سوءًا. 
 
مرحبًا بما قاله يوسف زيدان، مرحبًا بالحراك الذي نأمله عقب إلقائه حجر في مياه راكدة، مرحبًا بكل مشروع أدبي ومدرسة فكرية أيًّا ما كانت توجهها، فكل ذلك إنما هو ثراء للحياة الثقافية الفكرية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة