سيرك الثانوية الراقص

الجمعة، 03 نوفمبر 2017 11:07 م
سيرك الثانوية الراقص
بقلم د. حاتم العبد

بادئة لازمة، يأخذ- ويعيب عليّ في بعض الأحيان- عليّ بعض الأصدقاء، عزوفي وانصرافي عما يسمى خطأً بالموسيقى الشبابية، وتقوقعي داخل الماضي وعذوبة قصائده، وجمال ألحانه، وشدو صوته، وواقع الأمر أني لست ضد ما يقدمه الشباب، فأنا منهم، وهم مني، لكني ضد خلط الأوراق، والتباسية المصطلحات؛ فالموسيقى بالنسبة لي غذاء الروح، تأخذك من هموم يومك إلى راحة نفسية، وسعة صدرية، كمن يستنشق نسائم صباحية بعدما أمضى أسبوعه في عادم مصنع، إذا ما توافر هذا الشرط فأهلًا بالموسيقى الروحية. 
 
وثيق صلة بتلك البادئة المحدِّدة، موضوع اليوم، إذ أرسل لي أحد الأصدقاء ڤيديو يقال إنه لمدرس ثانوي في مركز للدروس الخصوصية، وتفتق ذهن الأراجوز إلى بدعة جديدة وهي أن يقوم بالشرح على أنغام ما ظنّها موسيقى بعد أن استعذب صوته، وأحسّ بموهبته، واستشعر تمكنه من المادة البهلوانية !! 
عجيب الأمر أن الطلبة تراصت كما الاستاد أو السيرك، وامتلأ سرادق العزاء- مكان الدرس- عن بكرة أبيه، لدرجة أنك لا تلمح كرسيّا شاغرًا أو مكان لموضع قدم !! وترنحت الرؤوس طربًا، وعلت الصيحات الله الله !! وتمادى المهرج في عرض فقرته القميئة !!
حاولت قدر جهدي أن أنصت لما يقول هذا المهرج، فلم أميز كلمة واحدة، ناهيك عن الصخب والضوضاء السمعية لما يفعله، ساءني بهلوانيّة حركاته، ومراهقيّة تصرفاته؛ فأدرت وجهي كي لا يتلوث بصري بعدما تلوث سمعي، وأعدت الڤيديو مرة أخرى في محاولة مني للفهم، أو لالتقاط كلمة واحدة مما يقوله هذا الأراجوز ؛ فباءت كل محاولاتي بالفشل.
 
استحضر مدرستيّ الإعدادية والثانوية بسيدي سالم، بمحافظة كفر الشيخ، وكيف كان لأساتذتهما الكرام من قيمة وقامة وهيبة، وكيف أنهم أثروا في تكويننا العلمي والفكري، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر السادة عاصم أبو الفتوح، المرحوم السيد شمارة، علاء لطفي، عبدالسلام الشيخ، نبيه حميد، ومن الفضليات مها إبراهيم بهنسي، ونزاهة المصري.. وآخرين. وكيف أننا كنّا نسمع دبيب النمل في الفصل، ووشوشة العصافير وتغريدها خارج أسوار المدرسة، وكيف أنهم كانوا حريصين على قدسية الحصة ومحتواها، وتلك هي النتيجة، أطباء ومهندسين وصيادلة ومحاسبين ومعلمين وأكاديميين.. إلخ.
 
لكن السؤال البدهي والمنطقي، ما الذي حدث ؟! كيف لتلاميذ أن يستوعبوا مادة علمية بهذه الكيفية ؟! هذا في حالة ما إذا فهموا ترجمة ما يقال !! كيف لوزارة التربية والتعليم أن تصمت على ذلك، كيف لآباء ولأولياء أمور يتمنون النجاح والتفوق لأبنائهم أن يحجزوا لهم مقعدًا في سيرك درجة ثالثة ينافس أعتى فرح شعبي بامتياز ؟! كيف لمجتمع يغمض عينه عن تلك الآفات ؟! كيف لنا التقدم وبناء مجتمعنا بتلك الآفات ؟!
 
إنها مسؤولية الجميع، مسؤولية الوزارة التي اتخذت من الثانوية العامة حقل تجارب، وأحالتها إلى بعبع ورعب، وغضّت الطرف عن الدروس الخصوصية، بعدما لم توفر الحياة الكريمة للمعلم، ومسؤولية الآباء وأولياء الأمور بأن سمحوا لأبنائهم بتلك المهزلة، ومسؤولية المدرسة التي قصّرت في الاهتمام بالحصة المدرسية ومتابعة مدرسيها، ومسؤولية المدرس الذي انصرف عن واجبه المقدس نظير حفنة- آلاف- من الجنيهات، مسؤولية ضمير غائب ومغيّب، مسؤولية التلميذ الذي قبل أن يكون أداة في يد مافيا الدروس الخصوصية، مسؤولية الذوق العام الذي انحدر.
 
إننا نخطئ في حق أنفسنا وفي حق أبناءنا وفِي حق مجتمعنا، إن لم نستفق من غفلتنا ؛ فلا نلومن إلا أنفسنا.
  
رحم الله شوقي حينما قال: قم للمعلم وفه التبجيلا : كاد المعلم أن يكون رسولا !!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة