عبد الحليم قنديل يكتب.. زمن ناجى شحاتة

السبت، 19 ديسمبر 2015 04:17 م
عبد الحليم قنديل يكتب.. زمن ناجى شحاتة

هذا المقال دفاع عن القضاء لا عن القضاة، فلا يجوز مدح القاضى ولا القدح فيه، أما القضاء فى ذاته، فهو قيمة سامية مقدسة ، وهو العدالة معصوبة العينين الممسكة بالميزان، لا ترى وجوه المتخاصمين، لا تخيفها قوتهم، ولا يغريها ضعفهم ، ففى القضاء شئ من روح الله ، بينما القضاة فيهم من روح البشر ، ومن طبائعهم ، ومن قوتهم وضعفهم ، ومن تقلبات الزمن واختلافات الأحوال ، وفيهم الصالح وهو كثير ، وفيهم الطالح الذى يفترض أنه قليل ، ويتكفل به نظام للإصلاح والتأديب والتطهير الذاتى ، بإحالات إلى التفتيش القضائى للصغار ، أو إلى دوائر قضائية خاصة بالنسبة للكبار ، وقد ينتهون حال الإدانة إلى مصائر غير قضائية ، إما بالنقل إلى وظائف إدارية ، أو بالعزل كليا من الوظيفة ، فلا أحد على رأسه ريشة ، والقانون فوق الكل ، فالقضاء يحكم على القضاة ، ولا يحكم بهم بالضرورة ، وهو ما نعنيه بأولوية الدفاع عن القضاء ، فالإساءة للقضاء قد تصدر حتى من قضاة بالزى الرسمى ، خصوصا حين يدخل بعض القضاة طرفا فى لغط الرأى العام ، ولا يتجنبون الاختلاط بعموم الناس ، ولا يترفعون عن الخوض فى شواغل السياسة الجارية.

والقضاء مؤسسة جليلة فى التاريخ المصرى ، ومعنى العدالة راسخ فى الضمير الوطنى ، منذ الإله الفرعونى "ماعت" حتى "محكمة النقض" ، وإلى نماذج مضيئة فى القضاء الإدارى والقضاء الدستورى ، فلا يزال فى حياتنا الحاضرة قبس من نور القضاء ، خاصة فى القضاء الإدارى ونظام مجلس الدولة ، والذى يتمتع بمكانة خاصة جدا ، تواصل تراث الأب عبد الرزاق السنهورى ، الذى صار العلم المؤسس للقانون المصرى الحديث ، والمعلم الأكبر لصناعة الدساتير ، وبرغم تعاقب الأزمان وتحول الظروف ، ظلت سيرة السنهورى تتناسل فى ضمائر قضاة مجلس الدولة ، وظل القضاء الإدارى حاميا للحقوق والحريات العامة ، وكلنا يذكر صولات وجولات القضاء الإدارى فى عهد المخلوع مبارك ، وكشفه لوقائع التزوير المنهجى المنتظم للانتخابات ، وتصديه لجرائم العدوان والنهب العام ، وأحكامه التاريخية فى مواجهة "الخصخصة" التى تحولت إلى "مصمصة" ، والتى لم تنفذ السلطات حكما واحدا منها إلى الآن ، إضافة لدور القضاء الإدارى فى السبق لتأكيد ضمانات الدستور الجديد ، وعلى طريقة تقبله للطعن بعدم دستورية قانون التظاهر الظالم ، الذى يسجن بسببه آلاف من الشباب إلى الآن ، وتكريس المبدأ الدستورى بإلغاء فرض الحراسة على النقابات ، وإدانته لعادة توريث الوظائف المستفحلة ، وذلك كله.

وغيره الأكثر ـ فى إطار دولاب عمل منتظم دقيق ، لا يخشى بطش السلطات التى يحتكم إليه الأفراد فى مواجهة تجاوزاتها ، ولا يصوغ أحكامه بحسب المقاس المطلوب أو المتوهم ، ومع إدارة "المجلس الخاص" لمجلس الدولة لشئون أفراده ، فيثيب من يستحق ، ويجازى من يقصر أو يحيد ، ويجهد للتخلص من مواريث الندب لوظائف الحكومة ، والتلاؤم مع أحكام الدستور الجديد ، التى قضت بوقف الندب لغير الوظائف القضائية ، وبهدف تخليص ضمائر قضاة مجلس الدولة من تأثيرات الندب الضارة ، كما يمنع قضاة مجلس الدولة من الحديث لوسائل الإعلام بغير إذن خاص ، وهو ما يردع شهوة الظهور والفتوى فى غير محل قضائى ، ورذيلة تحويل القاضى إلى "نجم شباك" ، ويجعل تركيز القاضى فى عمله أكثر جدوى ، ويزيد من فاعلية تطبيق التوحيد فى المبادئ القانونية ، ويقارب أحكام محاكم القضاء الإدارى إلى أحكام المحكمة الإدارية العليا ، ويقلص عدد إلغاءات المحكمة الإدارية العليا لأحكام القضاء الإدارى ، ويضفى انسجاما على الأحكام ، يبعث الثقة فى نفوس المتقاضين ، وهو ما لا تجد له مثيلا مطابقا فى علاقة محكمة النقض بأحكام محاكم الجنايات ، فما بالك بأحكام محاكم "الجنح" ذات القاضى الواحد الأصغر سنا والأقل تجربة ، والقابلة للإستئناف ثم النقض ، بينما لا استئناف فى أحكام الجنايات ، وكثير جدا جدا من أحكام الجنايات تلغيها محكمة النقض ، وتأمر بإعادة المحاكمة أمام دوائر جنايات أخرى ، وقد تقبل الطعن فى الحكم الثانى ، وتتصدى بذاتها لنظر الدعوى كمحكمة موضوع ، وتصدر حكمها النهائى البات ، وهذه دورة تستغرق فى العادة سنوات ، وتكلف خزينة الدولة مليارات الجنيهات ، وتثير أسئلة مفزعة عن حدود جدوى وكفاءة وعدالة الاحتكام النهائى لمحاكم الجنايات ، والدائرة الواحدة فيها تضم ثلاثة قضاة من الأقدمين ، وأحكامها نهائية واجبة النفاذ ، فإن قررت سجن أحد فسوف يسجن فورا ، ودون أن يعوضه أحد إذا ألغت "النقض" حكم الجنايات ، فى حين يلزم قانون الاجراءات النيابية العامة بالطعن بالنقض على أحكام البراءة ، وكذلك على أحكام الإعدام بالذات ، والتى أحاطها المشرع المصرى بضمانات هائلة ، وألزم النيابة بالطعن بالنقض فيها ، وحتى لو لم يطعن المحكوم عليه ، فلا يعدم متهم فى مصر ، إلا إذا مرت قضيته بسبع مراحل ، أولها : أن يصدر قاضى الجنايات حكمه بتحويل أوراق المتهم للمفتى ، وثانيها : أن يحكم القاضى بعد ورود رأى المفتى الاستشارى غير الملزم ، وثالثها : أن تنظر محكمة النقض فى الطعن بإلغاء حكم الإعدام وإعادة المحاكمة ، ورابعها : أن يصدر قاضى الجنايات الجديد قرارا بالإحالة الثانية للمفتى لو استقر ضميره على حكم الإعدام مجددا ، وخامسها : أن يصدر حكم الإعدام الجديد من القاضى ، وسادسها : أن تذهب الدعوى ثانية إلى محكمة النقض وأن تحكم فيها كمحكمة موضوع ، وسابعها : أن لا ينفذ حكم الإعدام ـ لو صار نهائيا وباتا ـ بغير تصديق مباشر من رئيس الجمهورية ، وهى دورة تستغرق فى المتوسط أربع أو خمس سنوات ، لاينفذ فى نهايتها سوى القليل النادر من أحكام محاكم الجنايات الأولى بالإعدام ، خاصة فى القضايا التى توصف تجاوزا بقضايا الرأى العام ، وبقدر ما تنطوى عليه هذه الدورة المطولة من ضمانات لحق الحياة وحفظ النفس الإنسانية ، ومن تأكيد لمكانة "محكمة النقض" المصرية ، وهى السد العالى الحامى للحقوق والمبادئ القانونية ، وبصورة تبعث على الطمأنينة والارتياح، لكنها ـ مع ذلك ـ تثير أسئلة مريرة عن أحكام قضاة الجنايات فيما تسمى بقضايا الرأى العام ، من عينة قضايا جماعة مبارك وقضايا جماعة الإخوان ، وعن مستوى الدقة والكفاءة القانونية فيها ، خاصة لو كانت أحكاما بالإعدام للعشرات والمئات أحيانا ، وعلى نحو ما جرى ويجرى فى كثير من قضايا جماعة الإخوان المنظورة ، والتى ما إن تصدر أحكام الإعدام فيها من محاكم الجنايات ، حتى تنقلب الدنيا على رأس السياسة المصرية والنظام المصرى ، ويقال على غير الحقيقة أنها "أحكام مسيسة" ، بينما هذه الأحكام فى ذاتها ، هى التى تسبب الحرج العظيم للسياسة والساسة المصريين ، فقد يتصور الرأى العام أن الأحكام المميتة قابلة للتنفيذ الفورى ، بينما هى أحكام إعدام لا تعدم أحدا ، ويأتى عليها الإلغاء من محكمة النقض فى غالب الأحوال ، ولكن بعد سنين طويلة ، نكون قد جنينا فيها "سواد الوش" على غير مقتضى صحيح ، وتوالت صور ومشاهد قضاة جنايات ، لا يفزعون من وصفهم بلقب "قضاة الإعدامات".

أحد هؤلاء القضاة هو ناجى شحاتة رئيس دائرة جنايات ، وقد ألغت محكمة النقض أحكام إعدامه لقادة من جماعة الإخوان ، وهو يبدى سعادته الغامرة فى حوار صحفى أخير مع جريدة "الوطن" اليومية المصرية الخاصة ، تسأله المحررة : هل يزعجك لقب قاضى الإعدام ؟، ويرد شحاتة : إذا كان يطلقه على أصحاب التيارات الدينية المتشددة . فأنا سعيد ومبسوط به جدا" ، ولا نريد ـ لاسمح الله ـ أن نصادر على سعادة شحاتة ، فهذا زمن سعادته ، وهذا شأنه ، تماما كما من شئونه ، تلك الآراء العجيبة التى أبداها فى الاعلاميين وفى ثورة الشعب المصرى ، فقد وصف ثورة 25 يناير بأنها "25 خساير" ، ثم عاد عن الوصف المشين فى مداخلة تليفزيونية لاحقة، وأنكر أنه أدلى أصلا بحوار للصحيفة اليومية ، ثم حين تحدته الصحيفة ، ونشرت تسجيله الصوتى وصوره أثناء الحوار، لم يعلق شحاتة، وصمت تماما، أكل "سد الحنك" فجأة ، ولم ينطق بعدها بحرف، واكتفى بما تصوره عقابا للصحف والصحفيين، ومنع الصحف غير الحكومية من شهود إحدى جلسات محاكماته، وأصدر حكما جديدا بإعدام ثلاثة متهمين جدد فى قضايا الإخوان، والذى من المتوقع أن تلغيه محكمة النقض كسوابقه، وقد لا تكون لآراء شحاتة فى الثورة من قيمة تذكر، فهو قد تراجع عنها بالسهولة ذاتها التى قالها بها ، لكن آراء شحاتة فى محكمة النقض هى ما يلفت النظر، وقد قالت الصحيفة أنها حجبت آراء أفظع لشحاتة فى حق محكمة النقض، وحتى لا تكون فتنة، لكن آراء شحاتة المنشورة تنطوى على تعريض ظاهر بقضاء النقض، فهو يعلق على إلغاء محكمة النقض لأحكام إعدامه الجماعية فى القضية المسماة إعلاميا "غرفة عمليات رابعة" ، ويقول بالنص "أسهل شئ لدى محكمة النقض مقولة أن هناك فسادا فى الاستدلال وقصورا فى التسبيب" ، وهذه نغمة استهانة مرئية بالمحكمة العليا فى البلد ، لا يصح أن تصدر عن قاضى جنايات عليه أن يتعلم من قضاء النقض وشيوخه، ثم تعود المحررة لسؤاله : هل إلغاء حكم "غرفة عمليات رابعة" أصابك بالإحباط ؟، ويرد القاضى شحاتة : لو ألغوا كل أحكامى.

لم ولن أصاب بالإحباط" ، مع أنه يقول فى الجواب نفسه عن قاضى جنايات آخر ألغت محكمة النقض حكما له بالإعدام ، يقول عن زميله بالنص أنه "تدمر نفسيا وكان هيموت من شدة حزنه" ، بينما شحاتة لا يحزن ولا يحبط ولا يتأثر نفسيا ، فهو ـ كما قال ـ كان ضابطا بالقوات المسلحة ، ولا يتورع عن وصف أحكام محكمة النقض بأنها "وجهات نظر" ، وهو يقول بالنص "أنا لدى شعور داخلى وقناعة بأنها وجهات نظر" ، وهو وصف غريب ، خصوصا حين يصدر عن قاضى يعرف مكانة محكمة النقض وحجية أحكامها ، وكأن المصائر القضائية تحددها وجهات النظر لا صحيح القانون ، بينما الحكم القضائى عنوان الحقيقة وليس وجهة نظر ، فما بالك إذا كان الحكم لمحكمة النقض؟ ، والأغرب من كلام شحاتة ، أن تسكت محكمة النقض عن استهاناته وعدوانه عليها ، وأن يصمت رئيس محكمة النقض ، وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء بحكم منصبه الرفيع ، وكأن لا أحد قرأ أو سمع ، وكأن إهانة القضاء لا تعنى شيخ القضاة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق