الفرد والمؤسسة

الأحد، 19 نوفمبر 2017 06:00 م
الفرد والمؤسسة
معتز بالله عبدالفتاح يكتب:

أهم معضلات السياسة فى تاريخها. مع قرارات الفرد قد يأتى الإبداع والحلول المبتكرة التى عادة ما تقاومها المؤسسات، ولكن مع قرارات الفرد أيضًا قد تأتى المغامرات غير المحسوبة والقرارات الخاطئة التى تسعى المؤسسات للحد منها.
 
المؤسسية، وتغليب نظرية تعدد مراكز صنع القرار وتوازنها ورقابتها المتبادلة وعدم تركز القرار فى يد شخص محدد يأمر والباقى يطيع ولا يستطيع أن يعارض أو يستأنف أو ينقض، المؤسسية بهذا المعنى قد أصبحت واحدة من سمات المجتمعات المتقدمة لأنها تعنى كذلك «الرشادة» فى عملية صنع القرار ومنع تغليب المصالح الشخصية أو الفئوية على الصالح العام.
 
وهناك من علماء المسلمين من اعتبروا أن ترجمة «الشورى» فى واقع المسلمين المعاصر تقتضى القواعد المؤسسية التى تجعل الشورى واجبة، ورأى أهل المشورة ملزم، باعتبار أن صانع القرار ليس شخصًا وإنما المؤسسة بمجملها.
 
ولتوضيح الصورة أكثر، فإن الفرد الحاكم فى المجتمعات المتخلفة (أى غير الصناعية وغير الديمقراطية وغير المؤسسية) كمن يقود سفينة يستطيع أن يتوجه بها فى أى اتجاه شرقًا أو غربًا، جنوبًا أو شمالًا. لا قيود عليه إلا ما يضع على نفسه. والأمثلة كثيرة، ولنبدأ بالرئيس عبدالناصر، رحمه الله، الذى أخذ مصر فى سكة الاشتراكية وأعاد توزيع الدخل عبر التأميم والمصادرة وتحديد الملكيات الزراعية وإنشاء القطاع العام والاستثمار فى الشركات والمصانع المملوكة للدولة، مع إلغاء الأحزاب وتأميم الحياة السياسية والسيطرة التامة على مؤسسات المجتمع المدنى. وبغضّ النظر عما إذا كان كل هذا صوابًا أم خطأ، ماذا لو كان الرئيس عبدالناصر اختار الطريق المضاد تمامًا، هل كان فى مصر من المؤسسات أو المجتمع المدنى من يستطيع أن يوقفه عن أى من قراراته؟ الإجابة يقينًا لا.
وهذا ما فعله الرئيس السادات بالضبط، تحولت مصر من حليف للاتحاد السوفيتى إلى حليف للغرب، من الاشتراكية إلى الانفتاح، من الحزب الواحد إلى تعدد الأحزاب الشكلى، من عدو لإسرائيل، للحرب، ثم الصلح معها، من القومية العربية إلى عزلة شبه تامة عن العرب، من القطيعة التامة مع الإخوان إلى إخراجهم من السجون وإتاحة المساحة لهم لينتشروا ويتمددوا، وهكذا. وبغضّ النظر عن صواب أو خطأ أى قرار من هذه القرارات، هل لو كان الرئيس السادات اختار أن يسير فى خط مضاد تمامًا، هل كان هناك من أو ما يمنعه؟
 
أما فى الدول الراسخة فى الديمقراطية (consolidated democracies) فإن الحاكم أقرب إلى قائد قطار يسير على قضبان محددة سلفًا، له مساحة من الحركة فى حدود ما هو مقبول سلفًا ومخطط مسبقًا، يستطيع أن يزيد السرعة أو يقللها، أن يقف فى محطة أو يتجاوزها. وحتى حين يخرج على القضبان فعليه أن يصنع قضبانًا غيرها، وإن لم يستطع أن يتواكب مع القضبان، فالانتخابات قادمة وفيها يتحول الحاكم إلى محكوم والمحكوم إلى حاكم.
مثلا دونالد ترامب مختلف. هو يريد أن يقود سفينة محكومًا لها أن تكون على قضبان. هو يتحدى الثوابت ويرى فى نفسه أنه «the interrupter» أى الشخص الذى جاء ليقضى على السياسة المعهودة فى واشنطن وأن من انتخبوه حمّلوه هذه المسئولية كى يقضى على طريقة اتخاذ القرار الموروثة فى مؤسسات الدولة.
 
هو أشبه بفيروس دخل على نظام التشغيل الأمريكى، والآن هناك اختبار كبير لمدى مناعة النظام الأمريكى ضد النزعة الانفرادية فى السلطة.
فى الدول المتقدمة، عادة ما يتراجع علم النفس السياسى قليلًا ليعطى مساحة أكبر لدراسة المؤسسات وصراع القوى السياسية فى المجتمع وتوزيعها فى مؤسسات صنع القرار لنفهم تفاعلات السياسة فى البلاد، والمؤسسات.. وربنا يستر.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة