العقاد: الريحانى رَجلٌ خلقَ للمسرح

الإثنين، 20 نوفمبر 2017 10:52 ص
العقاد: الريحانى رَجلٌ خلقَ للمسرح
عباس العقاد
"نقلاً عن العدد الورقى"

نجيب الرِّيحَانى - خلَّد الله ذكراه، وعوَّض الفنَّ الجميل خيرًا فيه - هو الممثل الوحيد الذى أستطيع أن أقول إننى عرفته من الوجهة الفنية معرفةً كافية لتقديره ونقده؛ لأننى رأيته فى جميع أدواره التى مثّلها منذ ظهوره على المسرح العربى فى أثناء الحرب العالمية الأولى، فلا أذكر أن رواية واحدة من رواياته فاتتنى طوال هذه المدة، ومنها ما قد شهدته مرة بعد مرة؛ لأنه هو الممثل الذى يغْنِيك تمثيلُه أحيانًا عن موضوع التمثيل.. وهذه هى طبيعة الأداء فى الفن الجميل، فأنت قد تغنيك نظرة واحدة إلى الحديقة الجميلة، ولكنك تعاود النظر إلى صورة تلك الحديقة مرّات، بفضل ما أكسبها الفن من معانى الأداء الجميل.

والأثر الذى تركه هذا الفنان القدير فى نفسى من أدواره المتعدّدة، أنه رجل خُلِقَ للمسرح، ولم يُخْلَقْ لشىء غيره.
فقد تتخيل كثيرًا من الممثلين النوابغ يعملون فى صناعات أخرى غير صناعاتهم المسرحية، ولا يشعرك هذا التخيُّل بشىء من الغرابة، إلا هذا الممثل النابغ الذى لا نظير له بيننا فى هذه الخاصّة، فإنك تحاول أن تتخيله فى عمل آخر غير عمله المسرحى فلا تفلح، ويبدو لك أنه غريب، فى كل مكان غير المكان الذى اختاره لنفسه، واختاره له الله.
 هو على المسرح كالسمكة فى الماء؛ دخوله إليه، وحركته عليه، وكلامه، وسكوته، وإيماؤه، وقيامه، وقعوده؛ طبيعةٌ من صميم الطبيعة، تُنسيك كلَّ تكلُّف يحتاج إليه الفنان حين ينتقل من العالم الخارجى إلى عالم الفن والرواية.
هنا هو طبيعى، وفى «غير هنا» هو متكلّف لما تفرضه عليه تكاليف الحياة.
وليس ينطبق عليه فى هذه الحالة أن تقول «إنه يلبس دوره»، أو أن دوره قد استولى عليه، فالواقع أنك تنسى الازدواج بين شخصية الدور وشخصية الممثل حين تنظر إليه.. كأنهما وحدة لا تسمح بالازدواج.
وهذه المزية الكبرى فى فن التمثيل - مزية الفناء فى الشخصية المسرحية- تأتى على ما أعتقد من طريقين: أحدهما قدرة تنويمية؛ كأنّما ينوّم الممثل نفسه تنويمًا مغناطيسيًّا لإيحاء الشخصية إليها وصرفها فى حالة التنويم عن كل ما عداها، والآخر سهولة السليقة أو سهولة إرسال النفس على سجيتها، وهى طريقة الفنان الذى يحب نوعًا معلومًا من الشخصيات يتلبّسه بسهولة وبغير كلفة.
وهذه هى طريقة الرِّيحَانى - رحمه الله - فى شخصياته الفكاهية على اختلافها ومن هنا كان امتلاؤه بها ذلك الامتلاء الذى يخليه من كل ما عداها حين يستحضرها فى خلده، فهو حين يمثّلها قالبٌ ينطبع كما يصنع المثَّالُ بالعجينة التى يصوغها على الصورة المطلوبة وفى الوضع المختار.
كان يمثّل صامتًا كما يمثّل ناطقًا، وهى مزيّة نادرة فى مسرحنا الناشئ، حيث يمثل الفنان ما يمليه عليه الكلام، ويعجز عن التمثيل حين لا ينطق بكلمات توحى إليه الملامح والحركات.
كان يشغل كل وقت يقضيه على المسرح، حتى الوقت الذى يستمع فيه لحوار غيره من الممثلين فى الرواية، بل ربما كان هو موضع الالتفات وهو صامت متأثر بما يسمع، ولم يكن للممثل هذا النصيب من التفات الجمهور.
وإذا صحَّ فى الإنسان الكريم أنه يعيش ويدع غيره يعيش Live and let live فقد يصح أن يُقال فى الممثل الكريم إنه هو الذى يمثّل ويدع غيره يمثل، لأنّه يوجّه شركاءه فى التمثيل إلى الوجهة الطبيعية بحركاته وإشاراته وأساليب تأثيره، وهكذا كان نجيب على المسرح «موتورًا » فنّيًّا ينشر الحركة والحيوية من حوله، فيجعل كل شريك له على المسرح يجيب كما ينبغى أن يجيب، ويتخذ الأوضاع التى تلائم جوابه فى مظاهر الإحساس والإلقاء.
ومعظم الممثلين عندنا من الطراز الذى نسمّيه بالطراز «البروفيلى» أو الطراز الجانبى، ونعزو ذلك إلى شعورهم بأنفسهم وشعورهم بالجمهور حين ينحرفون عنه بوجوههم ولا يستطيعون مواجهته وهم طبيعيون غير متكلفين.
أما الرِّيحَانى فقد كان استغراقه فى طبيعة دوره ينسيه نفسه وينسيه جمهوره، ويجعل الأثر المتبادل بينهما كالأثر الذى يحدثه رد الفعل فى البنية الحية؛ أثر «تلقائى» بغير قصد وبغير تفكير.
فلو أنك تخيلت الدار خاليةً من النَّظَّارة لَتخيَّلتَ له أسلوبًا غير أسلوبه المألوف فى تمثيله.
ولعله من الآحاد المعدودين الذين مثّلوا على المسرح ومثّلوا فى الصور المتحركة بغير عَنَتٍ أو مشقّة فى الحالتين؛ لأنه يستوحى الموقف وطبيعته التى تلائمه، سواء مثّل على ملأ من الناس، أو مثّل وهو منفرد بنفسه عن جميع الأنظار.
ورسالة الرِّيحَانى وراء الستار لا تقل عن رسالته أمام الأنظار، فلم يكن هذا الممثل النابغ ممثلا على المسرح، وكفى، بل كان معلّمًا فى فنه من الطراز الأول؛ معلمًا للممثلين ومعلمًا كذلك للمتفرجين.
ومن تعاليمه للمتفرجين أنه علمهم أن يضحكوا بنفوسهم حين كان الضحك كله ضحكًا بعضلات الوجه والرئة.
علّمهم الضحك «الفنّى » حين كانوا يقنعون من الضحك بهذه الحركة الآلية التى يتشابه فيها ضحك الكبار وضحك الأطفال الصغار، وقد كان لنا «مضحكون» على المسرح قبل نجيب.
ولكن لم يكن لنا «فكاهيون اجتماعيون» يجعلون الضحك تفسيرًا لما يلمحونه من طرائف المجتمع أو طرائف العادات والأخلاق.
ومن المعروف أنه كان يعتمد فى رواياته على الاقتباس الذى يقترن به كثير من التصرُّف أو كثير من التمصير، ولكن الحقيقة التى لا شكّ فيها أنه استطاع بمقتبساته الأجنبية أن يحرّك على مسرحنا أشخاصًا أو «شخصيات» لا وجود لها فى غير بلادنا.
فإذا تكلّمنا اليوم عن المسرح الفكاهى والفن الفكاهى والممثلين الفكاهيين؛ فلن نستطيع ذلك دون أن يتحوّل الكلام إلى كلام عن عمل هذا الفنان المخلص المثابر الأمين.
إن الخسارة فيه لا تُعَوَّض، والعزاء فيه قليل، إلا أن يخلُفَه فى فنه الجميل مَن يملأ فراغه ويُغْنِى غِنَاءَه، ويُتِمُّ البناء من حيث وطَّده وأعلاه.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق