في ذكرى مولد الرسول الكريم.. نظرات في ثقافة الإسلام الوسطية
الإثنين، 21 ديسمبر 2015 07:43 ص
قبل ساعات معدودة من الاحتفال بذكرى مولد الحبيب المصطفى تتوالى الطروحات والتأملات والنظرات في الحدث الجليل والذكرى المباركة لمولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيما تبقى ثقافة الوسطية الإسلامية الترياق لعلل التطرف وشرور الإرهاب.
ورسالة السماء التي انزلها الحق في علاه على خاتم الأنبياء هي بوسطيتها حاضرة في الحياة اليومية لملايين وملايين المصريين الذين يحبون نبيهم "الصادق الأمين" ويستدعون مواقفه واحاديثه في كثير من مواقف حياتهم اليومية.
والثقافة المحمدية مناوئة للوهن والتوهين وتشكل ايضا قوام "الذات المدخرة" التي نستدعيها دوما في أوقات التحديات القاسية والأيام الصعبة والساعات العصيبة وهي ثقافة تفكير لا تكفير بقدر ماتحض على الاجتهاد الإنساني وإعمار الكون وتحث العقل على أهمية فهم المتغيرات وتغيير الواقع نحو الأفضل وتشجع المبادرة والتجديد دون تفريط في الثوابت.
واذا كانت اشكاليات مواجهة الفكر المتطرف والمجافي للوسطية الإسلامية كما تجلت في رسالة الحبيب المصطفى للعالمين ليست وليدة اليوم فلعلنا بحاجة لقراءة جديدة في تراث مضيء لأعلام الدعاة وكوكبة من علماء الأزهر الشريف وفي طليعتهم الإمام الدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي الشعراوي والإمام جاد الحق علي جاد الحق والدكتور احمد حسن الباقوري.
وإذ تطالب مثل كثير من المثقفين المصريين "بتحديث الخطاب الديني وإعلاء قيم التنوير والاجتهاد الحر" رأت المحللة السياسية والكاتبة الدكتورة هالة مصطفى اننا بحاجة الى "ثورة فكرية لمواجهة الإرهاب الذي يبدأ بدوره من الأفكار".
وقد يقع جانب كبير من تلك المهمة على عاتق التلفزيون الوطني بإعادة بث هذا التراث العزيز على الشاشة التي يتابعها ملايين المشاهدين وهم في سوادهم الأعظم يتشوقون لأحاديث وشروح تلك الكوكبة المضيئة من العلماء والمفكرين والآباء الثقافيين ورموز الوسطية من دعاة استوعبوا رسالة خاتم الأنبياء والرحمة المهداة لكل البشر.
ومن هنا ينبغي على التلفزيون بحكم تمتعه بقاعدة كبيرة وعريضة من المتلقين الإمساك بزمام المبادرة بين وسائل الإعلام المختلفة وإعداد باقة من البرامج التي تحقق الاستفادة المثلى من تراث تركه لنا علماء ودعاة كبار كان بمقدورهم التعامل مع اعقد القضايا الفكرية والانتصار لصحيح الإسلام وجوهر رسالة الحبيب المصطفى.
ومشروع كهذا هو في الواقع مشروع إعلامي - ثقافي يخدم القاعدة العريضة من الجماهير في مصر والعالم العربي بقدر مايكشف شطط وانحراف جماعات التطرف وتنظيمات الإرهاب التي تتخفى وراء شعارات دينية فيما تروع الأمة بممارساتها الباغية وتخدم أعداءها وأجندات قوى الشر الرامية لمزيد من تمزيق العالم العربي والإسلامي.
والأمر في مرحلة حافلة بالتحديات الجسام لا يمكن أن ينحصر في قنوات ووسائط متخصصة في بث مواد التراث وانما يتوجب اتساع نطاقه ليشمل القنوات العامة للوصول لأكبر عدد ممكن من المتلقين وهم في الواقع ينتظرون مثل تلك البرامج ويتفاعلون معها بايجابية مثلما كان الحال في البرامج التي يظهر فيها إمام الدعاة الراحل فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي بقدرة فذة على التواصل فيما يتحدث للجماهير بلغة ومفردات تجمع ما بين عبقرية اللغة وفتوحات الالهام والحب المخلص للرسالة المحمدية الخالدة.
والمعجزة الحاضرة أبدا للحبيب المصطفى هي معجزة ثقافية بامتياز كما تتجلى في القرآن الكريم وهو "الكتاب" الذي انزل من لدن الحق في عليائه على الرسول الكريم ويبدأ بكلمة "اقرأ" فيما كان تمام المعجزة وكمالها أن يكون النبي أميا لدحض اي تخرصات حتى يوم الدين.
كفانا شرفا أن يكون الكتاب الذي انزل على نبينا هو من قال فيه رب العزة :" أو لم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون".
وكفى مصر مجدا أن يذكرها القرآن الكريم في عدة مواضع وان يكرمها الحبيب المصطفى بقوله لأصحابه الكرام :"ستفتحون مصر إن شاء الله فأحسنوا الى أهلها واستوصوا بقبطها خيرا فان لهم ذمة ورحما وصهرا" ، وهو القائل وما أروع قوله :"اذا فتح الله عليكم مصر من بعدي فاتخذوا منها جندا كثيفا فهم خير أجناد الأرض وهم في رباط الى يوم القيامة".
وإذ حذرنا الحبيب المصطفى من يوم يوشك أن تداعى فيه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها فانه ترك لنا ثقافة محمدية مضادة للوهن وإهدار الإمكانية بقدر ما تشكل هذه الثقافة جوهر القوة الشاملة ، وإمكانية متجددة لبناء افضل منظومة ثقافية للقيم والأخلاق.
كانت الثقافة المحمدية الصافية النقية والحاضرة في نفوس رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه هي القادرة على الحاق الهزيمة بقوتين عظميين قامتا على ظلم وعدوان واستعباد للبشر فكان انتصارها في لحظة تاريخية وضيئة مضيئة انعتاقا للإنسانية كلها وحرية لكل البشر وإعلاء لكرامة الإنسان.
ولئن كانت طغمة من أعداء رسالة الرحمة المهداة لكل البشر وجدوا في حفنة من المتاجرين بالشعارات الدينية وأصحاب الأطماع السلطوية ممن يتخفون وراء الأقنعة المتأسلمة خير حليف في تقسيم الأوطان وهدم الدول العربية والإسلامية ، فان التمسك بالإسلام المحمدي والعروة الوثقى لسيدنا رسول الله لابد وان يجهض مخططات الشر ويهزم من يسعون لذبح المسلمين وتقسيم أوطانهم.
وكيف للذبح وقطع الرؤوس والأعناق أن يكون غاية مسلم ورسالة حبيبنا ونبينا ورسولنا وتاج رؤوسنا هي رسالة الرحمة للوجود كله بكل موجوداته وتجلياته وكائناته ؟!.
وهكذا يحق لمثقف مصري مثل الشاعر والكاتب الكبير فاروق جويدة أن يتحدث عن ظاهرة غريبة ومريبة مثل ما يسمى "بتنظيم داعش" وان يقول :"ولم يكن غريبا أن تستدعي داعش كل التاريخ الدموي في الذاكرة العربية والإسلامية ابتداء بتاريخ الخوارج" فيما يشير الى أن هناك ترتيبات تجرى في الخفاء منذ سنوات لاشعال الفتن.
أما الدكتورة هالة مصطفى فترى أن الحرب على داعش تثير الكثير من القضايا الشائكة الفكرية والثقافية والحضارية التي تتجاوز جوانبها السياسية والعسكرية موضحة أن تلك القضايا تدرج إجمالا تحت مسمى "التنوير والنهضة".
والثقافة المحمدية هي ثقافة العمل والإتقان وسيدنا رسول الله هو القائل:" إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فان استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها" ، ومن ثم فنحن بحاجة حقا لأن نتأسى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المثابرة والاجتهاد وإتقان العمل على اكمل وجه معيدا للأذهان المقولة الشريفة :"إن الله يحب اذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
وفي هذه الذكرى العطرة لسيد الخلق الذي دعا لمكارم الأخلاق فاننا بحاجة ايضا الى "ثورة ضمير وثورة أخلاق" والعمل باتقان وصدق كما أن هناك حاجة ماسة لقراءة متعمقة في الثقافة المحمدية حيال قضايا مثل العدالة والنزاهة وطهارة اليد وتأمل معنى ومغزى مواقف اشرف الخلق المسجلة في سيرته العطرة.
ثمة حاجة لتدبر معنى غضبة نبي الرحمة عندما جاء احد عمال الصدقة ومعه مال وقد قسمه قسمين وقال للنبي:"هذا لكم وهذا اهدي لي" فظهر الغضب على وجه النبي ليقول للناس قولته الخالدة والتي تدخل في صميم قضية النزاهة والعدالة وطهارة اليد لأصحاب المناصب العامة:"فهلا جلس في بيت أبيه او بيت امه فينظر ايهدى له ام لا؟!.
وفي قضية العدالة الاجتماعية التي ناضل من اجلها الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري كان لنبوءة سيد الخلق أجمعين أن تتحقق عندما قال :"يا أبا ذر: انت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي" فقال ابو ذر متسائلا:"في الله؟" ليقول النبي:"في الله" ويرد ابو ذر رد من تشرف بصحبة نبي العدالة والرحمة والإسلام ويقول:"مرحبا بأمر الله".
فأبو ذر الغفاري كتلميذ نجيب في المدرسة المحمدية أدرك أن الإسلام قام على أساسين متينين هما التوحيد والعدل وان الرسول الكريم سار بين الناس سيرة قوامها العدل فيما تروي كتب السيرة والسنن انه صلوات الله عليه وسلامه في مرضه الذي فارق به الحياة الدنيا لينتقل الى رحاب ربه سأل عن شييء من المال كان قد بقى عنده من مال المسلمين فأخرجه الى الناس ولم يبق منه شيئا وتوفي "وهو لا يملك صفراء ولا بيضاء".
ويقول الكاتب أسامة الألفي بجريدة الأهرام إن "مولد الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الفيل الذي شهد اندحار قوى الشر ممثلة في أبرهة وجيشه لم يكن مصادفة وانما بشارة من المولى جلت قدرته بعهد جديد للإنسانية ، عهد تتحرر فيه من ظلمات الباطل وتثور على الوان الظلم لتحقق العدالة وتتبع قائد اتى برسالة ربانية فيها خلاص البشرية وصلاحها".
ولم يكن من الغريب أن تكون الثقافة المحمدية برؤاها الثرية وأبعادها المتراكبة نبع الهام لكثير من المبدعين والمفكرين في العالم ومن بينهم في مصر أمير الشعراء احمد شوقي صاحب قصيدة "ولد الهدى فالكائنات ضياء" ناهيك عن المفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فضلا عن آباء ثقافيين مثل الدكتور محمد حسين هيكل وعبد الحميد جودة السحار.
ومن نافلة القول إن الثقافة المحمدية تشكل أغنى مصادر الإبداعات في عالم المتصوفة و فيما اعتادت مشيخة الطرق الصوفية بالمولد النبوي الشريف في محيط مسجد الحسين وهي منطقة شكلت زادا ثقافيا ابداعيا للأديب النوبلي المصري الراحل نجيب محفوظ .
إنها منطقة تعبر في الجوهر عن مصر المحبة لمحمد الرحمة المهداة وآل البيت الأطهار..مصر الوفية لإسلامها الحق والتي لا تقبل أن يقوم اي طرف او فصيل "بتأميم الدين لصالحه وتأويله لمصالحه الخاصة على حساب أغلبية الشعب"..مصر التي لن تنحني الا لخالق الكون الذي وهبها رسالة حضارة كونية..مصر التي لن تترجل عن تعاليم خاتم الأنبياء وحبيب خالق الأرض والسماء..نعم هذا يوم نستعيد فيه سنا النور ونتابع الخطى نحو نبع لا ينضب..نبع الثقافة المحمدية وفيض النور للرحمة المهداة سيدنا رسول الله.