كتب عن مشواره عبر أروقة السرد ودهاليزه وعوالمه:

الراحل مكاوي سعيد يكتب أسرار حياته بخط يده: لولا عبدالناصر ما تعلمت القراءة والكتابة

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017 03:00 م
الراحل مكاوي سعيد يكتب أسرار حياته بخط يده: لولا عبدالناصر ما تعلمت القراءة والكتابة
مكاوي سعيد
(نقلا عن العدد الورقى)

الأسبوع الماضى فجع الوسط الثقافى بصفة عامة والوسط الأدبى بصفة خاصة بالرحيل المباغت للكاتب والروائى مكاوى سعيد.
 
كان الراحل الكريم يمثل حالة متفردة قائمة بذاتها، مما يجعل الكتابة عنه ولو من باب الرثاء أمرا صعبا، فمكاوى عاش حياته وسجل موته بوصفة أيقونة من أيقونات «وسط البلد» ومعلما من معالمه، حتى أن صديقا من الكتاب اكتفى بأن كتب «برحيلك يا مكاوى ستفقد الأشياء مذاقها، من السهرات إلى المشاجرات».
 
مساهمة من «صوت الأمة» فى الاحتفاء بالراحل الكريم ننشر أبرز ما خطه بيده عن حياته، وهى تلك الشهادة التى ألقاها قبل شهر فى مركز الشيخ إبراهيم للتراث بمملكة البحرين الشقيقة. 
 
الكتابة كانت بالنسبة لعائلتى الصغيرة بوابة سحرية لم يجرؤ أو يتح لأحد منهم ولوجها أو اكتشافها لظروف عدة، فقد كانت أمى أمية تماما، بينما أبى على إلمام بسيط بالعمليات الحسابية غير المعقدة، وعلى معرفة بالحروف العربية غير كاملة، وإن كانت تتيح له أحيانا معرفة بعض الجمل البسيطة وقراءتها.. تعلم بعضها عقب قضاء شهور قليلة فى كُتّاب القرية، ثم صرف النظر عنه أو صُرف منه لسبب ما -الله أعلم- ولم يكن ذلك مهما فى عالمه الضيق بالقرية، وحتى عندما انتقل إلى العاصمة (القاهرة) ليعمل بها، واستقر بها مع أمى، لم تكن القراءة والكتابة تهم أيهما أو يعتقدان أنها قد تفيدهما يوما، لذا لم يأبها لتعليم ابنهما البكر أو التفكير فى إدخاله مدرسة ما لتعلم الأبجدية، حتى بلغ هذا البكر الثمانى سنوات، وكان مقدرا له أن يلتحق بالعمل اليدوى فى إحدى الورش الميكانيكية عند بلوغ سن العاشرة، فى العام الذى ولدت به، فقد كان البكر هو شقيقى الأكبر الذى تفصلنى عنه سنوات عشرة.
 
وكانت الحال فى البلاد قد تغيرت منذ سنوات قليلة بقيام الثورة ووصول جمال عبدالناصر إلى الحكم، وأقر بأحقية كل مواطن فى التعليم، وسرت شائعات أو رُددت أقاويل فى الصحف بأن الدولة ستجرم كل أب لم يدخل أبناءه الذين بلغوا سن الدراسة «ست سنوات» المدرسة، بغرامة قدرها عشرة جنيهات والسجن ثلاث سنوات، قال لى أبى بعدها بسنوات إن فكرة السجن لم ترهبه بقدر ما أزعجه مبلغ الغرامة وظل لأيام يفكر فى كيفية تدبيرها، ولو دبرها فهل يستطيع يوما تسديدها للدائن، وفى غضون أيام قلائل استكمل أبى الأوراق المطلوبة لقيد أخى كقيد الميلاد وصورة من بطاقة هوية الأب، وتمكن من قيد أخى فى المدرسة.
 
وما كان أبى يعتقده من أنها شدة وتزول أو على رأى المثل «الغربال الجديد له شدّة»، وستعود الأيام إلى سابق عهدها، ويستطيع حينذاك إخراج أخى من المدرسة وإلحاقه بالعمل ليكون مسانداً له فى ما يتطلبه مصروف البيت، لكن اهتمام الطفل بالمدرسة وانكبابه على مذاكرة ما يحصله من دروس بالبيت دون مساعدة من أحد، وبهجته بأصدقاء الدراسة وضيقه من الأجازات، ومشواره هو اليومى لإحضار ابنه من المدرسة وإيداعه فيها، وثرثرته مع الأهالى فى انتظار جرس انصراف التلاميذ، صرفت الأب عن التفكير فى التحايل لإخراج الولد من المدرسة، وبخاصة ما رآه من اهتمام الأم بتحصيل الطفل فى المدرسة ومجاراة جاراتها فى الحديث عما يدرسه الطفل والوجبات التى تمنح لها والنجوم الحمراء التى توضع فى الكراريس الدالة على التفوق، وكلما مرَّ عام بدا اهتمام الأب يكبر بالمدرسة وبضرورة وجود ابنه فيها، كما بدأ يدخر كل عام ليكون جاهزا فى بداية العام الدراسى بما تستلزمه الدراسة من كراريس وأقلام ومساطر ومسّاحات ومرايل وحذاء جديد، ولما نجح الطفل فى الشهادة الابتدائية بتفوق يسمح له باستكمال الدراسة فى المدارس الإعدادية وزعت والدته الشربات على الجيران وسار أبوه منتشياً فخورا، وتبدلت خطته من أن يعمل ابنه فى أى عمل يدوى بأن يصير موظفا حكوميا له سلطة ومهابة. 
 
عندما دخلت المدرسة فى السن المحددة، كان أبى قد تغيرت فكرته عن التعليم، وتدرب جيدا بملازمته أخى، وأصبح يسألنى يوميا عما درسته وعن معاملة المعلم لى وهل أخطأت كثيرا وما دفعه لضربى، وليتأكد من صدقى كان يفحص بدقة كفى اليمنى ثم اليسرى كأنه يتشمم آثار عصا أو قرصة ما فركت أذنى وتركت علامة، ويتسلم الشهادة المدرسية التى كانت تقدم لنا كل ثلاثة شهور ويدقق فى الأرقام ويعاتبنى لو درجتى كانت متوسطة، وكانت أمى تحتفظ بهذه الشهادات الورقية بداخل مجلة من مقتنيات أخى الذى كان قد بدأ يقرأ ويشترى أحيانا مجلات فنية، وضبطت أمى تُرى هذه الشهادات للجارات وهى مبتسمة، أمى الجنوبية التى لم أشهدها تضحك بصوت فى وجود أبى أو فى غيابه، أو ترتدى ملابس ملونة حتى فى الأفراح طبقا لعادات أهلنا، كانت تبتسم من تفوقى، وكانت الجارات يخرجن ويعدن بشهادات مماثلة لأبنائهن.
 
وكبرت قليلا وأصبح أبى يقنن لى أوقات لعبى، وإذا ما تأخرت فى اللعب يقتحم الشارع الذى كنا نتخذه ملعبا ويشير لى من بعيد، فيتوقف اللعب والكون كله وأنا أُجر من يدى وهو يلومنى بشدة ويحذرنى بمنعى من اللعب نهائيا إن تكررت، وكنت إن نسيت وفعلتها مرة أخرى يمنعنى فعلا من اللعب أو التمشية مع أصدقائى، ثم سرعان ما يسمح لى بمواصلة أداء هواياتى بمجرد أن يحس بمدى حزنى، وكانت أمى رقيبا أشد فى البيت فى الفترة التى يغيبها أبى سواء فى عمله أو فى مسامراته مع أصدقائه، إن ضبطتنى وأنا مشغول عن المذاكرة بسماع الراديو أو بقراءة مجلات الأطفال أو الكبار التى كان يحضرها أخى، كانت تغلق الراديو أو تجذب من يدى ما أتصفحه وتأمرنى بمعاودة المذاكرة.
وبمرور الوقت عندما أحببت القراءة خاصة الموجودة فى المجلات والكتب غير الدراسية، كانت المراقبة أشد وكنت قد تعلمت كيف أتحايل عليها بدس الكتاب الذى أنا مستمع بقراءته وسط أى كتاب من كتب المنهج الدراسى، لكنى يبدو أن قراءة كتاب أحبه تختلف تماما عن قراءة كتاب مفروض علينا قراءته طبقا للمنهج الدراسى –كما عرفت عند الكبر- كانت ملامحى يبدو عليها الاستحسان والتمتع بما أقرأه، ولم يغب ذلك عن فراستها الفطرية، فتظاهرت بأنها ستعد لى الشاى ثم غافلتنى وأتت من ناحية ظهرى وضبطتنى متلبسا بقراءة الكتاب غير المدرسى، فنزعته منى بغضب شديد، وغادرتنى بدموع حقيقية وأغلقت عليها غرفتها، وغرقت فى همى ومصيبتى لم أكن مهتما بتهديدها بالشكوى لوالدى ولأخى، ولا بفكرة أن يضربنى ويهيننى أحدهما، كنت مهموما بأنى أغضبتها إلى حد البكاء، وأنها قد لا تصالحنى للأبد، فقد خبرت خصومتها للأقارب وللجيران وكنت أرى بعينى وأسمع بأذنى، رغبة من ضايقها فى مصالحتها بعد فترة كبيرة وكيف كانوا يرسلون ناس طيبين للشفاعة، وكيف كانت تردهم حتى لو كانوا أعزاء على قلبها، مرت الساعات القليلة حتى حضور أخى ثم والدى كأنها دهور، ثم سمعت دعوتها لهما وطلبها بإغلاق الغرفة عليهم، ثم خروج الأب والأخ دونها كما توقعت، والصفعة القوية التى نلتها من أبى وتوبيخ أخى، لكننى كتمت ألمى كما كتمت دموعها، وانسحبت كى أنام دون أن أتناول طعام العشاء، وحتى عندما دخل أخى غرفتنا وأبلغنى بأن أبى يدعونى للعشاء، رفضت الخروج ونمت مستاء إلى الصباح. 
 
كلما كبر أخى عاما كان يدخل فى مستويات أعلى للقراءة بحكم فارق السن، لكنه ظل يشترى مجلات الأطفال ويطوف عليها سريعا ثم يتركها لى، ولأنه أغرم بالقراءة وظل كذلك حتى نهاية حياته، فقد أفادنى ذلك جدا، لأنه بدأ يقتنى الروايات البوليسية الأجنبية ويحبها ويكثر من شرائها أو مبادلتها مع أقرانه، ودواوين الشعر لصلاح عبدالصبور وعبدالمعطى حجازى، وكنت أقتفى خطاه وأقرأ كل ما يصل إلى يدى، رغم سخريته منى لأنى أقرأ كتبا أكبر من سنى، واختباراته لى بقراءة بعض سطورها أمامه وسؤاله لى عن معناها، حتى يتأكد من أننى أعى ما أقرأه.. ثم إعجابه بقدرتى العالية على القراءة وإفهام أمى وأبى أن تلك الكتب تفيدنى فى الدراسة ولا تعطلنى، وأحب أخى الروايات العربية وبدأ يشترى روايات لنجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف إدريس ويوسف السباعى وأمين يوسف غراب وحنا مينا والطيب صالح وآخرين، وهنا وجدت متعتى الحقيقية حتى أنى بدأت أهمل قراءة مجلات الأطفال وأبدأ فى قراءة الروايات حتى لو لم يكمل أخى قراءتها، وكان ذلك يثير غضب أخى ويلومنى بعنف حتى لم أعد أفعل هذه الفعلة وأقرأ قبله كتابا كان له، وكان يكافئنى عند نجاحى الدراسى بكتاب أو كتابين لأحد الكتاب الكبار مثل طه حسين أو العقاد أو توفيق الحكيم.
 
أول نقود أحصل عليها من الكتابة كانت عن قصة للأطفال رسمها الفنان التشكيلى الكبير فيما بعد «صلاح عنانى»، وبعد النشر تسلمت شيكا مصرفيا باسمى الثلاثى، وأريته للعائلة ورأيت نظرة محبة لم أنسها مطلقا، وتساؤلًا مكبوتًا كنت أشاركهم فيه.. هل الكتابة التى يُضيّع فيها هذا الطالب وقته لها مردود مالى؟، وكان المبلغ كبيرا بعد تحويله إلى العملة المصرية، ورغم حاجتى له التى يعرفها أبى جيدا بعد دخولى الجامعة فى عامها الأول، إلا أنه طلب منى أو على الأصح نصحنى بأن أحتفظ بالشيك باعتبار أنه أول مقابل مادى لكتاباتى، لكننى صرفته فى أول فرصة على الاحتفال بهذه المناسبة مع أصدقائى، وفى الحقيقة كان لهذه المكافأة دور كبير فيما بعد لامتهان الكتابة والاعتماد عليها وتغيير مهنتى كمحاسب فيما بعد إلى كاتب، كما أنها عززت هوايتى أمام العائلة وتوقف لومى على تضييع الوقت فى القراءة والكتابة وإهمال الفروض الدراسية، ومن تلك اللحظة ظل حبى للكتابة للأطفال مستمرا حتى الآن.
فقد كتبت ونشرت فى معظم مجلات الأطفال العربية والمصرية، ونشرت العديد من روايات الأطفال آخرها منذ عام، رغم المقابل الضئيل الذى يمنحه الناشرون لهذه الكتب، ورغم مكاسبى الكبيرة من الكتابة للكبار سواء أكانت روايات أو مقالات تجمع فى النهاية فى كتب، إلا أن امتنانى لما قدمته لى كتب الأطفال فى بدايتى بصفة خاصة فى مجال تنمية الخيال، والأجور التى دعمتنى فى أول مشوارى، تجعلنى أخصص لهم على فترات قصيرة دورية أعمالا لهم، ثم بدأت تظهر صورى فى فترات قليلة فى الصحف، وكان هذا انتقالا مذهلا أثر فى أهلى وجيرانى أولا، وبات لا يدهشنى أن يدخل أبى يده فى جيب سيالته ليخرج منها ورقة صحف مطوية يعطيها لى وهو يبتسم ويخبرنى بأنها قد تفيدنى لأنه سمع وهو بالمقهى يلعب الدومينو أنها مقالة جيدة لكاتب كبير يتناقشون ويتجادلون حولها.
أما أمى التى كانت العفاريت تتقافز على كتفيها عندما ترانى أقرأ المجلات وسط العام الدراسى أو أكتب فى كراسة وليس أمامى أحد الكتب المدرسية، كنت أبحث منهمكا فوق مسوداتى الموضوعة على ظهر المكتب، وكانت تراقبنى بعد أن وضعت الشاى أمامى، ثم سألتنى هل فقدت شيئا؟.. فقلت لها بلا اهتمام: أبحث عن إحدى وريقاتى؟، طلبت منى البحث فى سلة القمامة الموضوعة أسفل المكتب، فأخبرتها أنى انتهيت من البحث فيها، فخرجت من الغرفة وعادت بصندوق صغير من الكرتون ملىء بالأوراق الصغيرة التى كنت ألقيها فى السلة يوميا، وأشارت لى بالبحث فيها وفعلا وجدتها، وسألتها مندهشا لماذا تحتفظ بالأوراق التى سبق أن رميتها، فأجابت بجدية: لأنى كنت متأكدة أنها أوراق مهمة وقد تعود للبحث عنها!. هذا هو العالم الذى صنعته لى الكتب داخل بيتنا ووسط عائلتى الصغيرة.
 
والتحقت بالمرحلة الثانوية وقد كبرت لدرجة التصرف بمفردى فى الحصول على الكتب والدواوين الجديدة التى أسمع أو أقرأ عنها، عندما عرفنى بعض الزملاء من هواة القراءة أيضا على بائع صحف ومجلات مقره بالقرب من مدرستنا، ويؤجر الكتب الجديدة والمجلات الشهرية لمدة أسبوع بمبلغ ضئيل؛ بشرط إعادتها دون تمزيق أو كتابة بالقلم على صفحاتها.
 
وكان هذا الرجل هو المعين الثانى لى بعد أخى فى القراءة، فالمدة الوجيزة التى يمنحها لنا جعلتنى أقرأ بسرعة حتى أرد الكتاب فى موعده، وما يفوتنى من القراءة وأحس بأهميته كنت أنسخه على ورقة من الكراسة وأحتفظ بها حتى يحين وقت قراءته، كما أن التزامى بشروط هذا البائع جعلته لا يمنع عنى كتابا مهما غلا ثمنه، أو ندر وجوده، ومن هنا قرأت أغلب ما كانت تصدره المطابع العربية، وباتت لى ذائقتى الخاصة فى الشعر بعد إضافة شعراء مذهلين لم أكن أسمع عنهم كمحمد الفيتورى والسياب وعبدالوهاب البياتى ومحمود درويش، والجيل الجديد من الشعراء المصريين كأمل دنقل وعفيفى مطر، والكتاب والروائيين الجدد كبهاء طاهر وجمال الغيطانى والبساطى وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبدالله وآخرين، ولم يخل الأمر من وصاية!
فبقدر دهشة أخى الكبيرة من الكتب التى بدأت أقرأها ولم يكن قد سمع عنها، بنفس هذا القدر كانت دهشتى عندما امتنع بائع الصحف عن تزويدى بأى من الكتب والمجلات رغم أنى لم أخالف له اتفاقا، وكدت أبكى وأنا أسأله عن السبب، وهو يربت على ظهرى وقال إنه قد أخذ على نفسه عهدا ألا يمنح أحد التلامذة كتبا ولا مجلات قبيل امتحانهم، وأكد أنه لن يستثنى أحدا، ثم وعدنى بمعاودة تزويدى بالكتب الجديدة بمجرد انتهاء الامتحانات، وطلب منى عند ظهور شهادة نجاحى أن أحضرها له لكى يراها، وأنه حينها سيمنحنى عشرة كتب أقرأها مجانا طوال فترة الإجازة، وقد وفى بوعده عند نجاحى. 
 
فى تلك المرحلة الدراسية بدأت بكتابة الخواطر الشعرية فيما يشبه الكتابات فى المدونات الشبابية الآن وكان يقرأها بالطبع أخى ثم أصدقائى وزملائى وكانوا يتحمسون لما أكتبه مجاملة، كما كنت أحاول كتابة قصص الأطفال على غرار ما كنت أطالعه فى المجلات الخاصة بهم، وتحمست أكثر وبدأت أكتب نقدا انطباعيا على بعض المقالات والأفلام لكن لم أنشر شيئا من هذه الكتابات ولم أملك الجرأة لفعل ذلك، وبمساندة من الأصدقاء الذين دأبوا على استحسان ما أكتبه والطلب منى أن أراسل بعض الصحف لنشره، أطعتهم وأرسلت مقالا تعقيبا على كاتب يناقش مسألة عامة، ونشرت بعض عدة أيام قليلة والذى نبهنى لذلك كان أخى الذى اشترى الصحيفة وأثنى على ما كتبته.
 
ومن خلال أخى عرف والدى بالمقال واشترى أيضا الصحيفة التى بها مقالى وكانت هذه هى المرة الأولى الذى يشترى فيها ورقا به كتابة لا طائل من ورائها كما كان يوبخ أخى فى الماضى لإنفاقه مالا فى هذه التفاهات، وأعتقد أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التى يفعل فيها هذا الأمر، وأنا بصدد تناول مصروفى اليومى منه وهو بجوار أصدقائه، رأيته يطلعهم على المقال وهو يحاول قراءته ويتهجى كلماته بصعوبة بالغة، خجلت جدا وهممت بالتراجع لكن أحد أصدقائه لمحنى وأبلغه فنادانى مبتسما وأثنى على ما كتبته وشاركه أصدقاؤه بمصافحتى والضغط على يدى وتمنى مستقبلا باهرا لى، وعند عودتى من المدرسة فى المساء وجدت أبى منشغلا بأمر عجيب وأخى يحاول إقناعه بأن الأمر ليس بيدى، كان التوقيع على المقال باسم «مكاوى سعيد»، وجدته يشير إلى الاسم ويطلب منى قراءته بصوت عال، وقرأته كما هو مكتوب، وباغتنى بسؤال وهو يشير إلى نفسه: وأنا اسمى إيه؟، أجبته بخوف: حضرتك سعيد محمد، قلب شفتيه وهو يقول: إذن لماذا تكتب اسم أبيك ولا تكتب اسم أبى؟، سكت وأنا أنظر إلى أخى ليتدخل، وظللنا فى مجادلة بيزنطية لأكثر من ساعة، أخى يكرر أن ليس باستطاعتى أن أذهب إلى مقر الصحيفة وأن أطلب منهم تصحيح الاسم لأنى كاتب صغير يكفى أنهم نشروا لى، وأنهم سيرفضون التصحيح وقد يأخذون موقفا منى ولا ينشرون لى بعد ذلك، وبعناد الأصول الجنوبية كان أبى يتعنت ويعلن أنه سيكون بصحبتى فى الصباح وسيصحح الاسم حتى لو أدى ذلك للخناق معهم، ودخلت أمى لتزيد اللهب نارا وهى تزايد على والدى بأن هذا لا يصح، وأخى المسكين جف حلقه وهو يعدد لهم مخاطر ما قد أتعرض له لو أصرّ على رأيه، وأنا أبكى بكاء بغير انقطاع وأندم على اللحظة السوداء التى دفعتنى لكتابة هذا المقال ونشره، لكن فى الصباح كان الأمر قد تغير وأخبرنى أبى أنه لن يذهب إلى الجريدة وطلب منى أن أريه ما أكتبه قبل أن أرسله ليرى بنفسه اسم أبيه، وأومأت بالموافقة ولم أرسل شيئا بعدها للصحف لأكثر من ستة أشهر، مما لفت نظر أخى ولعل أبى كلّمه فى الأمر وأقنعنى أخى بمعاودة مراسلة الصحف دون أن أهتم برد فعل أبى، وظل يشجعنى ويلح عليّ حتى أرسلت إليهم مرة أخرى ونشر تعليقى بدون اسم الجد، وطالع أبى الجريدة لكنه لم يناقشنى فى سؤال لماذا تجاوزته ولم أره كتابتى قبل النشر أو لماذا لم تنشر الجريدة الاسم الثالث للكاتب.
 
فى الجامعة تطور أسلوبى وتحسنت لغتى وبدأت أكتب أشعارا لا بأس بها وإن قال عنها أصدقائى ومعجبيّ فى الجامعة أنها جيدة، وفى الوقت نفسه كنت أكتب قصص الأطفال وأجرب السرد للكبار، وفى مسابقة جامعة القاهرة للأدب والفنون حصلت على لقب شاعر الجامعة، فى ذات العام الذى حصل فيه المطرب الجامعى «أحمد الكحلاوى» على لقب مطرب الجامعة والزميلة الجامعية «إيمان الطوخى» على لقب مطربة الجامعة، وكلاهما اشتهر فيما بعد، وكنت قد بدأت فى تجميع بعض قصائدى تمهيدا لإصدار أول ديوان لى قبل أن أتخرج من الجامعة مستفيدا من شعبيتى كشاعر داخل أسوار الجامعة، لكن فى الحقيقة بعد دراسة متأنية واستقصاءات لزملائى فى الجامعة، عدلت عن فكرة نشر الديوان لأننى وقد أكون غير مصيب أحسست بأن الشعر ليس طريقى الإبداعى، وأن أفكارى ورؤياى من الصعب قولبتها فى القوالب والأوزان الشعرية، وحتى لو اتجهت إلى نظم الشعر الحديث النثرى -وقد جربت ذلك- فالأولى أن أكتب السرد القصصى والروائى، خاصة أننى فى هذه الفترة كنت أحضر ندوات أدبية فى المقاهى الثقافية ودار الأدباء ونادى القصة، وكنت أقرأ عليهم إنتاجى من القصص، وأثنى عليها نقاد وأدباء كبار كالناقد توفيق حنا والقاص يحيى الطاهر عبدالله، وهنا بدأت التجهيز لإصدار مجموعتى القصصية الأولى تحت عنوان «الركض وراء الضوء».

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق