«سلم نفسك».. إبداع خالد جلال وروعة شباب المسرح المصرى

الأحد، 24 ديسمبر 2017 05:51 م
«سلم نفسك».. إبداع خالد جلال وروعة شباب المسرح المصرى
عادل السنهورى يكتب:

فى عام 95، أصدر الدكتور جلال أمين كتابه الشيق والمهم، الذى حمل سؤالا مازلنا نبحث عن إجابته حتى الآن، طرح المفكر الكبير سؤالا عريضا محيرا «ماذا حدث للمصريين؟» لرصد التحولات فى المجتمع المصرى فى نصف قرن منذ عام 45 حتى عام 95.

الكتاب السؤال مازال ملهما حتى الآن لكثير من المبدعين والفنانين والأعمال الفنية فى السينما والدراما والمسرح، وكل حاول بطريقته إيجاد حل للعودة إلى ما كنا عليه.. إلى زمن الأخلاق والرومانسية..إلى زمن الجمال والاحترام وقيم الشهامة والنخوة ورد الجميل وجبر الخواطر.. إلى زمن الفن الراقى الذى كان يعكس سلوكيات وأخلاقيات المصريين فى التعامل مع الآخر.. فى الشارع وعلى الرصيف، وفى المواصلات العامة ومع الجيران وحتى مع المرآة. 

المخرج المبدع، شديد الإبداع، الدكتور خالد جلال، رئيس مركز الإبداع الفنى ورئيس قطاع الإنتاج الثقافى بوزارة الثقافة حاول استلهام السؤال من خلال العرض المسرحى «سلم نفسك»، اعتبره بصفتى متذوقا ومحبا للمسرح واحدا من أمتع وأروع العروض المسرحية فى العشرين عاما الماضية من حيث الفكرة والأداء والإبداع الفنى للوحات مسرحية بديعة أبطالها طلاب الدفعة الثالثة لمركز الإبداع.
 
وقبل التطرق للعرض، الذى تلقيت دعوة كريمة من صديقى المبدع خالد جلال لحضوره مساء الاثنين الماضى، أتحدث عن هذا الرجل، الذى تحول مركز الإبداع الفنى التابع لصندوق التنمية الثقافية على يديه إلى مصنع لاكتشاف وتأهيل النجوم الجديدة فى المسرح، التى يمكن أن تكون ارهاصة نهضة مسرحية جديدة فى مصر والوطن العربى، وتعيد للمسرح بهاءه ورونقه واشعاعه واشراقه.
 
خالد جلال، ليس عاشقا فقط للمسرح، لكنه صوفى فى عشقه متيم به إلى درجة الذوبان الفنى فيه يبحث من بين ثناياه عن مواهب مسرحية غير عادية. مثل الجواهرجى الشاطر فى تعامله مع قطع الماس والذهب. وهذا ما يقوم به مع مجموعة من الشباب المبدع الذى يحتاج إلى فرصة حقيقية لتفجير مواهبه الفنية على خشبة المسرح، وهو فى هذا يقوم بعمله فى دأب شديد وإخلاص نادر غير موجود فى القطاع الحكومى الفنى برمته. ولو كنت فى مكان متخذ القرار لأصدرت قرارا فوريا بإنشاء وزارة للمسرح، وقلت لخالد جلال «سلم نفسك» لتولى هذه الوزارة، إذا كنا نريد مواجهة حقيقية مع التخلف والتطرف والإرهاب، فالفن هو الحل والمسرح هو أبو الفنون.
 
وأعود إلى عرض « سلم نفسك»، فما شاهدته شيئا يفوق الوصف فى الجمال والإبداع والابهار، ويستحق درجة الامتياز اخراجا وأداءً، وهو عرض ينتمى لمدرسة الفن الجاد صاحب الرؤية يمزج بين الكوميديا والسخرية والسخرية والضحك. لكن قبل أن تضحك أو بعد أن تضحك لا بد أن تفكر بشدة، فمسرح خالد جلال هو مسرح التفكير، وبعمق فى قضايا مجتمعنا المصرى والعربى، ولذلك ما يحدث داخل مركز الإبداع شيئا عظيما ومشروعا وطنيا لإحياء نهضة المسرح المصرى من جديد بشباب تفوق خبراتهم وأداؤهم أعمارهم الحقيقية.
 
فما شاهدته من 27 ممثلا على خشبة مسرح مركز الفنون، يفوق التوقعات، فكلهم أبطال لا فرق بينهم، وهذا دليل على حسن ومهارة التدريب من قائدهم خالد جلال.
 
يطرح خالد جلال السؤال «ماذا يحدث للمصريين» من خلال مدينته المثالية أو مدينة أفلاطون، الذى يتخيلها ويتمناها على الأرض يعيش فيها بشرا مختلفين فى كل شىء عن بشرنا الحالى فى السلوك والقيم والأخلاق، بشر يعيش حياة خالية من التشوهات الأخلاقية، ثم يهبط عليهم فجأة ودون مقدمات مواطن من البشر الحالى، الذى يعيش تحولات وتغييرات المصريين بكل ما يحمله من أخلاقيات وقيم تم تشويهها بفعل فاعل..! ويتم القبض عليه، ويبدأ علماء المدينة المثالية التى لا نعرف لها زمان أو مكان فى فحص ملفات عقله الباطن المتخم بالتشوهات.
 
ومن خلال لوحات مسرحية مدهشة ومثيرة ومبهجة فى كل شىء يبدأ خالد جلال فى فتح الملفات، وما بها من تشوهات ومهازل فى قالب كوميدى غاية فى الروعة لتشريح ما حدث للمصريين من صدأ وغياب الضمير وانعدام النخوة والشهامة والغرق فى آبار الانحراف السلوكى والدينى والعقوق.
 
وقبل النهاية يتخذ قائد المدينة وفريقه العلمى إعدام هذا المواطن قبل أن ينشر أمراضه فى المجتمع الأفلاطونى المثالى، لكن عالمة وباحثة واحدة فيهم راهنت على هذا المواطن وعقله الباطن، الذى لا بد أن يكون مختزنا لملف واحد نقى خالٍ من فيروسات التلوث البشرى الحالى ونجحت فى الرهان، فمازال هناك ملف التضحية والفداء من أجل أن يعيش الوطن، كامنا فى عقل هذا المواطن ولم يتلوث. 
 
«سلم نفسك»، هو صرخة من مخرج العرض وأبطاله للمجتمع لكن دون إحباط وتشاؤم وبدعوة للتفاؤل والأمل فى التغيير والعودة إلى الجمال ونبذ القبح.
 
الحق أقول إننى منحاز تماما لتجربة ومشروع خالد جلال فى المسرح، فليس هذا العرض الأول له الذى أحضره، فقد شاهدت من قبل «هبوط اضطرارى»، و« قهوة سادة»، وكل عرض ينافس الآخر فى الروعة والدهشة والإبداع والجمال المسرحى فى كل عناصر العمل المسرحى.
 
تحية خالصة لخالد جلال وشبابه المبدعين الرائعين.. ومن هنا أطالب مرة أخرى بوزارة خاصة للمسرح يتولاها خالد جلال 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق