فلنكن إخوانًا في الإنسانية قبل كل شيء

الإثنين، 22 يناير 2018 10:04 ص
فلنكن إخوانًا في الإنسانية قبل كل شيء
بقلم د.مهند خورشيد

قبل أيام قليلة احتفل إخواننا المسيحيون بعيد ميلاد المسيح، ومثل كل سنة تبدأ هنا لدينا في ألمانيا النقاشات العقيمة التي تدور حول السؤال: هل يجوز للمسلم أن يُهنئ جاره أو زميله في العمل أو صديقه المسيحي بهذه المناسبة أو حتى إن يقدم له هدية ولو رمزية؟ وتتراوح الأجوبة من الإباحة مرورًا بالكراهة إلى التحريم أو حتى التكفير. أنا لست مُفتيًا ولا أريد التعرض لهذا الموضوع من وجهة نظر فقهية تحلل أو تحرم، وذلك لإيماني العميق بأن هذا السؤال كما هو شأن أسئلة كثيرة مماثلة تتعلق بسؤال التعايش بين الإنسان وأخيه الإنسان لا يكفي بحثها كأسئلة فقهية، بل من الضروري أن تُبحث أيضًا في سياقات أخرى غير السياق الفقهي، كالسياق الإجتماعي أو السياق الأسري أو الإنساني بشكل عام. 
 
 
إذًا لا بد من إلقاء نظرة على واقع تعايش المسلمين مع غير المسلمين في البلاد غير الإسلامية. 
 
لقد تعودنا في أوروبا بشكل عام على تعامل الأنظمة والقوانين الحكومية مع المسلمين بتسامح، بل وبأكثر من ذلك. فالتسامح الديني يعني السماح للآخر بممارسة شعائره الدينية والصبر على ذلك، فتبقى بقية من الاستعلاء على المسموح له. لكن واقعنا المعاش في بلادٍ مثل ألمانيا أو النمسا يُعبر عن مفهوم آخر، فهذه البلاد ومعظم بلاد أوروبا تحرص على ضمان نفس الحقوق للمسلم التي ضمنها القانون لغير المسلم. فهناك حيث يضمن القانون مثلًا تدريس الدين المسيحي في المدارس العامة في النمسا أو معظم ولايات ألمانيا، يضمن هذا القانون أيضًا تدريس الدين الإسلامي في هذه المدارس حيث وُجِد طلاب مسلمون حتى وإن كانت معظم الولايات الألمانية ما زالت في بداية طريق تدريس الدين الإسلامي في جميع المدارس العامة، إلا أن الجميع متفقون على ضرورة معاملة المسلمين معاملة بالمثل كمعاملة المسيحيين. فتوجد المقابر الإسلامية، كما توجد المساجد في كل مكان، والمسلمون يقيمون فيها جميع شعائرهم من صلوات مفروضة وصلوات الأعياد والتراويح وقيام الليل ودروس الدين للصغار وللكبار، كما أن رؤساء هذه البلاد ووزراءها يحتفلون مع المسلمين في أعياد المسلمين ويدعونهم لحضور الاستقبالات الرسمية في مثل هذه المناسبات، إنهم يلبون دعوات المسلمين للإفطار معهم في رمضان بصدر رحب كما أنهم يقيمون ولائم للإفطار للمسلمين والكثير الكثير غير ذلك مما يجعل أمنية الكثيرين من المسلمين الحصول على الجنسيات الأوروبية والاستيطان في ربوع أوروبا. لا تُفَرِّق المحاكم بين المسلم وغير المسلم، فهي لا تنظر أصلًا لهوية الماثل أمامها الدينية. القانون نفسه جار على الجميع. كما يُراعى حال السجناء المسلمين، حيث تُقدم لهم وجبات الطعام دون لحم الخنزير ولهم أماكن وحرية الصلاة في السجون، وهذا نفسه ينطبق على الثكنات العسكرية التي يعمل بها المسلمون. لا تُفَرِّق مؤسسات الدولة الإجتماعية بين المسلم وغير المسلم، فالجميع له الحق في الاستفادة من الخدمات والمعونات الإجتماعية الخ. هناك تفاصيل كثيرة لا يسع المكان لذكرها ولكن يهمني هنا الإشارة إلى حياة المسلمين في أوروبا حياة كريمة. نعم، توجد أحزاب يمينية متطرفة هنا وهناك كما يوجد لدينا في بلادنا الإسلامية أيضًا التطرّف الديني عند بعض الجماعات التي لا تحمل للآخر إلا الأحقاد والكراهية بإسم الدين ولكنها سواء في الغرب أو في الشرق فهي أقليات منبوذة من أهل البلاد أنفسهم. فهذه الأقليات المتطرفة لا تعبر عن الأكثرية، فليس من الإنصاف التركيز عليها لرسم صورة سوداء عن الشرق أو الغرب. وبلا شك أن هناك حالات أو مسائل إشكالية هنا أو هناك لم يتم حلها بعد، كمسألة إرتداء المرأة المسلمة الحجاب في أثناء عملها كقاضية في المحاكم مثلًا في بعض البلاد الأوروبية، ولكن أيضًا هنا لا يجوز التعميم واتخاذ الأحكام المسبقة فقط من أجل إظهار صورة الغرب كمعاد للإسلام، كما لا يجوز التعميم واتهام الإسلام بأنه دين عنف فقط بسبب بعض المتطرفين المعادين للإنسانية باسم الإسلام. 
 
 
عندما ينضج الطفل المسلم في مثل هذه البيئة التي تعترف له بدينه وبحقوقه الدينية، أو لنقل بمعظمها، ويرى كيف أن أساتذته وزملاءه يباركون له في عيد الفطر أو الأضحى وربما احتفلوا معه وقدموا له هدية أفرحت قلبه لما فيها من معاني التكريم والإحترام، ثم إذا جاء عيد صديقه في المدرسة يأتي من يقول له: يحرم عليك تهنئته أو إهداؤه شيئًا، وقد مر علينا بعض من كفّر المهنئ لمجرد تهنئته للمسيحي بهذه أو تلك المناسبة، فحينها لا يستوعب هذا الطفل قسوة دينه الاجتماعية ولا لماذا يسمح دين الآخر أن يعامله هو كمسلم باحترام وتقدير وإدخال السرور على قلبه بينما الإسلام يحرم ذلك كله ويبخل على الإنسانية بمعاني الحب والاحترام. فتجد أن واقع أغلبية المسلمين لا يلتفت لمثل هذا التحريم، لعدم اقتناعهم بحرمة ذلك التي تنافي فطرهم التي جبلوا عليها من احترام الصديق والزميل والجار، فمن عايش بنفسه منذ صغره كيف كرَّمه أساتذته وجيرانه وأصدقاؤه وكم فرح قلبه بهذا التكريم والاحترام، يصعب بل يكاد يستحيل إقناعه بأن تعاليم الإسلام أبخل على الإنسانية من تعاليم غيره من الأديان. كما ذكرت في البداية، إن مدخلي لهذا الموضوع ليس مدخلًا فقهيًا همه الإفتاء بحل أو حرمة تهنئة من اختلف دينه عن ديني بأعياده، إن مدخلي لهذا الموضوع كغيره من المواضيع هو السؤال عن الإنسان كأداة لتحقيق الحب الإلهي والرحمة الإلهية من خلال حياته وتصرفاته وكلامه وشخصيته وأفكاره ونواياه وأمنياته وتفاعله مع مجتمعه ومع الإنسانية بل حتى ومع النبات والجماد.فكل ما يَصُبّ في تجسيد حب الله ورحمته لخلق الله وعلى رأسه أكرم خلق الله، الإنسان، هو واجب أخلاقي، فكل حركة، كل همسة، كل إلتفاتة، كل كلمة، كل عمل، مهما كبر ذلك أو صغر، إن كان في سبيل تحاب وتراحم الإنسان مع أخيه الإنسان فهو تحقيق لمراد الله من الخلق: نشر الحب والرحمة. لذلك أشار نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام إلى أن مجرد الإبتسامة في وجه أخيك الإنسان أو السلام عليه هو عمل خيّر يُعبر عن قلب إنساني تنبض فيه روح الله وتدعو قلب الإنسان الآخر أن ينبض هو أيضًا بروح الله ومحبته ورحمته، فتتفجر ينابيع الإنسانية حين تلتقي هذه القلوب المحبة التي يرحم بعضها بعضًا، والقرآن أشار لمثل هذا المعنى حين ضرب مثلًا لأثر الكلمة الطيبة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)" (سورة إبراهيم).
 
 
أليست تهنئة غير المسلم بعيده والفرح بفرحته والدعاء له بالسعادة والبركة، أليس هذا كله من الكلام الطيب الذي يثري إنسانيتنا ويحقق مراد الله في نشر الحب والتراحم بين خلقه ويؤكد أننا إخوان في الإنسانية قبل كل شيء؟
 
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق