القطيعة الثقافية وسؤال نهضة الحضارة الإسلامية

الأحد، 04 فبراير 2018 01:45 م
القطيعة الثقافية وسؤال نهضة الحضارة الإسلامية
دكتور مهند خورشيد يكتب ..

لو خُيّر أحدنا بين السفر على متن طائرة صُنعت اعتماداً على مواصفات صناعة الطائرات قبل مائة سنة والسفر على متن طائرة حديثة المواصفات، فسوف يختار بلا شك السفر على متن الطائرة الحديثة، لأنها أكثر أماناً ناهيك عن تفوق أدائها لأن خبرة ومعارف مصنعي الطائرات قد تراكمت مع مرور السنين والتجارب وقد استفاد هؤلاء من أخطاء الماضي فاتسع أفقهم المعرفي. هذا ينطبق على جميع الخبرات والمعارف الإنسانية، سواء النظرية منها أم العملية. فالتراكم المعرفي والخبراتي هو شرط التقدم.
وهذا يُفسّر تأخر المسلمين اليوم في كثير من المجالات العلمية والتقنية، حيث نعاني اليوم من قطيعتين معرفيتين:
قطيعتنا مع مناهجنا وإرادتنا المعرفية إبّان عصور الإزدهار الإسلامي بين منتصف القرن الثامن والقرن الرابع عشر الميلادي وقطيعتنا مع معارف ومناهج عصرنا العلمية اليوم.
وهذا ينطبق خاصة على العلوم الدينية، فهي ليست بدعاً من الأمر، بل مثلها كباقي العلوم والمعارف الإنسانية التي لا تتقدم إلا بالتراكم المعرفي. وربما كانت ومازالت أكبر قطيعة مع تراثنا وحاضرنا هي قطيعتنا مع علم الفلسفة الذي أثرى آباءنا وأجدادنا ومدارسنا الكلامية منها والفقهية، حتى أصبح فعل التفلسف بين العامة في زماننا هذا شتيمة يُعبّٓر من خلالها عن كثرة كلام شخص أو عن قول يصعب فهمه، في حين استفادت الحضارة الغربية من الفلاسفة المسلمين أمثال ابن رشد وابن سينا وغيرهم وواصلوا مسيرة هؤلاء المعرفية فأثْرَوا بهذا التراكم المعرفي حضارتهم. 
الفلسفة، كما وصفها أحد عظماء الفكر الإنساني وهو أرسطو، هي تعبير عن الدهشة، عن التساؤل، عن حب المعرفة والغوص في أعماق الأفكار ورفض البقاء على السطح. أليس هذا هو عين ما دعى إليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة: "أفلا تتفكرون"، "لقوم يعقلون"، "لقوم يتفكرون"؟ هذه وأمثالها آياتٌ وأجزاءٌ من القرآن نقرؤها ونرددها وندافع بها عن الإسلام حين يُتهم بأنه لم يعط العقل حقه. ولكن لنكن صريحين مع أنفسنا: أين حديثنا هذا عن العقل ومكانة التفكّر والفكر النقدي في واقعنا وفي مدارسنا وجامعاتنا، بل وفي وعينا العلمي بشكل عام؟ والملفت للنظر هو أننا هنا في قسم الدراسات الإسلامية في الجامعة في ألمانيا حين نلتقي خلال الندوات العلمية بأساتذة من الشرق، فتلاحظ أن أساتذة العلوم الإنسانية من فلسفة وعلم اجتماع وعلم نفس وأنثروبولوجيا الخ. القادمين من هذه البلاد مثلهم كمثل أساتذة العلوم الطبيعية والطبية، غالباً ما يكونون على اطلاع جيدٍ على آخر وأحدث النظريات العلمية في تخصصاتهم، أما حين الإجتماع بأساتذة العلوم الشرعية فلا تجد غالباً، دون أن نعمّم، ذلك التواصل مع المنتوج العلمي الحديث في مجال الدراسات الدينية. فإذا اطلعت على تواريخ تأليف كتب علم الإجتماع مثلاً التي يستدعيها محاضر علم الإجتماع المسلم في طيات محاضرته وقارنتها بتواريخ تأليف الكتب التي يستشهد بها عالم الدين أثناء محاضرته، للاحظت مواكبة الأول لزمانه وتوقف الثاني عند زمان غيره. لا أقصد بهذا الدعوة لقطيعة فكرية مع تراثنا، بل أدعو للإستفادة منه ولكن مع مواصلة كتابته مستفيدين من التراكم المعرفي الإنساني، فأين لنا أن نتقدم إذا ضربنا بالمعارف الإنسانية الحديثة عرض الحائط وبقينا في جمود فكري وكأننا نعيش خارج التاريخ؟    
أريد أن أضرب هنا مثالين، أحدهما يتعلق بعلم الكلام وآخر بعلوم القرآن. 
فإذا ألقينا مثلاً نظرة على أدلة وجود الله سبحانه وتعالى التي كتب عنها علماء المسلمين في عصور الإزدهار، فتجد تأثرهم الكبير بالفلسفة اليونانية والتي فتحت أمامهم آفاقاً لفهمٍ أعمقَ للوجود الإلهي، حتى تجد أن علماء المسلمين استخدموا مصطلحات متأثرين بالفلسفة اليونانية للتعبير عن الوجود الإلهي مثل "العلة الأولى"، "المُحرّك القديم غير المتغير"، "واجب الوجود" الخ. ليس هنا المقام لمناقشة هذه الأدلة أو المصطلحات. الذي يهمني هنا هو الإشارة لانفتاح المسلمين وعلماء الدين في عصور الإزدهار على المنتوج العقلي لحضارات أخرى واستفادتهم منها. ما زلنا نكرر هذه الأدلة على وجود الله حتى يومنا هذا، ولكن ماذا عن أدلة وجود الله التي أنتجها العقل الإنساني الحديث؟ ماذا عن الدليل الأخلاقي الذي توصل إليه الفيلسوف الألماني كانط مثلاً؟ لماذا لم يصبح الإنشغال بأفكار الفلاسفة المعاصرين جزءً من الدرس والبحث الديني الإسلامي اليوم؟ لا أقصد بذلك ضرورة موافقة هؤلاء الفلاسفة على كل ما كتبوه ولكن أقصد الإنفتاح على المنتوج الحضاري المعاصر والتعرف عليه ومناقشته والأخذ منه والرد عليه. 
نعم، هنا تظهر قطيعتنا المعرفية مع نتاج الفكر الإنساني الحديث. أما محاولة تعليل هذه القطيعة والدفاع عنها بعدم حاجتنا لهذا الفكر الإنساني الحديث، فهذا تعبيرٌ عن مشكلتنا الثقافية والهوّة المعرفية التي تفصلنا عن ركب الحضارات المتقدمة، فلا يرفض العلم إلا الجهل. والجهل الذي لا يعي بمشكلته هو الجهل المركب. 
وأما إذا ألقينا نظرة على ما يُعرف بعلوم القرآن، فتجدنا نعدّ هنا العلوم التقليدية كما عدّها علماؤنا من قبل، مثل النحو والصرف والبيان والبديع وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ الخ. وهي وبلا أدنى شك علوم مهمة وجزء لا يُستغنى عنه لمن أراد دراسة القرآن الكريم، ليست هنا المشكلة، المشكلة تكمن في قطيعتنا المعرفية مع علوم العصر المُستخدمة في تفسير النصوص الدينية كعلم الهرمنيوطيقا والمداخل التاريخية النقدية للتعامل مع النصوص الدينية. أعيد وأكرر أن الإنفتاح على هذه العلوم لا يعني تبنيها، بل التواصل المعرفي معها ودراستها ومن ثم التعرف على مدى إمكانية الاستفادة منها. وكم مرّ علينا من طلاب العلم الذين سارعوا لرفض كل ما هو جديد دون تكليف النفس الإنشغال الحقيقي أولاً بدراسة هذا الجديد والتعرف عليه. لكن هذا الرفض العشوائي لكل جديد وبمجرد اطلاع سطحي عليه هو أيضاً تعبيرٌ عن قطيعتنا الثقافية اليوم. 
ومن المؤلم أشد الألم، بل وَمِمَّا يبكي عليه القلب، هو أنك لا تكاد تجد هذا الإصرار على رفض كل جديد إلا بين المنشغلين بالعلوم الدينية، إلا ما رحم الله، فلا نُعمّم كي لا نظلم أحداً. لن تفيدنا محاولات التبرير. لن يفيدنا الاستعلاء على منتوج العقل الإنساني باسم الدين. لن يفيدنا التقوقع على أنفسنا والعزلة المعرفية. لن يفيدنا سوى تتمة مسيرة آبائنا وأجدادنا إبّان عصور النهضة الإسلامية ومواصلة مشوارهم التراكمي العلمي والإستفادة من كل ما هو جديد. 
كما أننا لن نقبل السفر على متن طائرة رفض صانعها الإستفادة من علوم ومعارف العصر، علينا ألا نقبل لديننا أن نبخل عليه بعلوم ومعارف عصرنا. أما تلك التيارات الإسلامية التي مازالت تسعى لإقناعنا أن العقل الإنساني هو المشكلة وكأن الدين قد أتى لإخماد صوت العقل، فيا ليت أتباعها يعيدون قراءة التاريخ البشري بإمعان ويتفكرون في آيات القرآن الكريم التي جعلت من التفكّر والتعقّل شرطاً للإيمان:
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأولي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقعوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار" (آلِ عمران ١٩٠، ١٩١).
لن نتمكن من إعادة بناء حضارة إسلامية تثري الإنسانية كتلك التي بناها الأجداد في عصور الإزدهار الإسلامي إلا بالعقل والفكر العلمي الناقد، الذي لم نعد نكاد نسمع له حسيساً إلا في الخطاب النظري الذي سرعان ما يتلاشى حين التطبيق على أرض الواقع، بل يسارع هذا الخطاب ذاته ليصبح أول وأكبر عدو للعقل وللتفكير النقدي والعائق الأقوى أمام التقدم جاعلاً من الدين مُشلاً لنهضة أتباعه. فالأمل كل الأمل في أجيال صاعدة شجاعة ترفض التبعية الفكرية وتنادي بتفعيل كتاب الله بدعوته للعقل وللعلم وللنهضة. فتقدم الحضارة الإسلامية أو عدمه متوقف علينا نحن المسلمين.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق