الجيران وخلايا المرايا

الجمعة، 16 مارس 2018 05:43 م
الجيران وخلايا المرايا
هبه العدوي تكتب :

كانت العلاقة بين الجيران في ثمانيناتنا الجميلة لها رونقاً خاصاً.. في بعض الوقت,كانوا أقرب لبعضهم البعض  من عائلاتهم..لا اعلم هل فرّغت الرأسمالية التواصل بين البشر من فرط طغيان نظمها الإستهلاكية القاتلة للروح .. أم أنها ضغوط  الحياة وسرعة إيقاعها ..أم  الزحام قد فرض علي الناس أخلاقه, فباتوا يلهثون خلف المادة غير عابئين بما إن كان هذا اللهث سيقطع أوصال محبتهم بأقرب الناس لهم أم لا !!

ام تُراها تكون كل تلك الاسباب مجتمعة معاً ؟َ

طنط زيزي وعمو موسي ..جيران العمر الجميل ..

 لم يشأ الله أن ينعم عليهما بنعمة البنين.. فصار كل أطفال العمارة أبنائهم أجمعين .. بل كل الأطفال في محيط أقربائهم  كذلك..

هو الله الرحمن الرحيم ..يمنع من جهة..ليعطي من أخري الوفير من فيضه الكريم ..

هذا لمن ملك قلب يفقه به حكمته في المنع..فيري بأعينٍ من نورٍ, عطاياه التي أفاض بها علي من رضي وسلّم فأسلم لقضائه ..

***

 طنط زيزي  أمي الثانية .. في العيد تكون هي أول من يشاهد ملابسي الجديدة وأخواتي  ..في زواجي وقبل أن تعلم الأسرة الكبيرة عن خطبتي شيئاً كانت هي أول من تَعرّفت بخطيبي  ..

في الفرح والحزن ..كان وجهها هو أول من يطل علينا بإبتسامته الدائمة ..وكذلك كنّا معها ..

 الزينات في رمضان تُقام بين ثلاثة منازل, منزلنا ومنزل طنط زيزي ومنزل جارتنا الثالثة طنط آمال ..أما عن هذا الطبق الدائر بين ثلاثتنا فدورانه كان كدوران الكرة الأرضية بلا توقف ..

 

***

 حباني الله بطفولة مميزة أحمده عليها دوماً, فأمي هي صديقتي العقلانية ..أما طنط زيزي فهي صديقتي العاطفية ولذلك كنت أمر عليها كلما أحزنني أمراً خاصة لو يخص أمر الناس الذين لا أعرفهم أي معرفة شخصية .. أتذكر أن أحدهم مات ابنه في حادثة أليمة وقد كان ثاني ابن له يموت في حادثة مشابهه..وكنت لا أعرفه بصفة شخصية..اتذكر بكائنا معاً عليه كما لو كان من  عائلتنا.. وتخيلنا لمقدار الوجع الذي قد يمر به وزوجته ..

أتذكر زميلة لي في المدرسة توفت والدتها فجأة هي لم تكن صديقتي ولكن وجعها وجعني .. وعلي الفور مررت علي  (طنط زيزي ).. قبل ذهابي لمنزلنا الذي كان في طابق يعلو الطابق الذي تسكن فيه, لأسألها كيف سنقف بجانبها في محنتها المؤلمة !!

قد كنّا وطنط زيزي هكذا .. نشعر بالآخر كما لو تبادلنا ادوارنا معه..

***


كبرت وتعلمت ان ذلك هو ما يسمونه الذكاء العاطفي..ذكاء المشاعر والأحاسيس الذي هو فطرة نلوثها عندما نُعلِّم أولادنا ثقافة التنافس بدلا من ثقافة التكامل ..نُعلِّمهم الغيرة ومقارنة أنفسهم بالآخرين عندما نقارنهم بأصدقائهم ونُعلِّمهم انك لكي تكون الأول يجب أن تصعد اولاً على أكتاف من ينافسونك في المدرسة..فنلغي بذلك تأثير ( خلايا المرايا ) ..التي خلقها الله عزوجل لنا لكي تجعل من يده في المياه, يشعر ويحس بمن يده في النار ..بعكس المثل المصري الشهير..

(اللي إيده في المية, مش زي اللي إيده في النار )

 

***


 اكتشف علماء إيطاليون في بداية التسعينات ( خلايا المرايا ).. وهي خلايا عصبية تعمل كمرايا داخل عقولنا تجاه مشاعر الآخرين..تجعلنا نشعر بآلامهم كما لو كنا نحاكيهم في ألم تجربتهم ..

بالتأكيد ( الفردية والتنافسية) تحد من عملها، ولكن إذا ما هُذِبت الفطرة تجاه إنسانيتها, عملت من جديد بكامل طاقتها..

 قامت مجموعة من العلماء بإجراء التجارب علي القردة ..فكانت هناك قرود مسترخية وأخري تقفز لتناول الطعام.. المسترخية منها كانت خلايا مراياها تنشط, كلما رأوا القرود تقفز وتتناول الطعام دون أن يأكلوا مثلهم ..

هذه الخلايا ذكية تميز بين الحركات المسالمة والعدوانية .. من رفع يده ليضربنا ليس كمن رفع يده ليطبطب علينا ..تري ذلك بوضوح في الأطفال الصغار..هل سبق لك أن كشرت في وجه طفل صغير وقلت له في نفس الوقت أحبك بصوتٍ غاضب؟

ستجده سرعان ما يبكي ..  ذلك أنه يشعر بإحساسك ويتفاعل بخلايا مراياه مع تعبيراتك .. قبل أن يدرك معني كلامك..

يقول العلماء أن تلك الخلايا هي السبب الرئيسي في إنتشار الثقافة بالمحاكاة  وبالتالي تطور الحضارة في رحلة التطور الإنساني ..

 

***

قد كان الجيران في ثمانيناتنا  الجميلة إذاً خلايا مراياهم حية..  وقد كنّا انا وطنط زيزي نحييها أكثر بمزيد من أحاديثنا عن مشاركة الآخرين آلامهم ..

 

كبرت والحقيقة أنّي كما انا.. قد ابكي اذا ما رأيت صغير يبكي متألما.. وافرح لفرح الناس كما لو كان فرحي أنا.. وفي ذلك حياة مبهجة لمن اعتاد المشاركة الوجدانية مع المجتمع ..

***

توفي عمو موسي قبل طنط زيزي ..رغم دعائها الذي ما زلت أتذكره أن يجعل الله يومها قبل يومه .. ولكنها فيما بعد رحيله, أخذت علي عاتقها عمل صدقة جارية له ..ومنها كانت البداية لمشروع طنط زيزي الخيري الذي تجري فيه لمساعدة كل خلق الله حيث دوما تحدثني - رغم آلامها الجسدية مع تقدم عمرها..وآلامها لوحدتها بلا زوج ولا ابن ولا ابنه من صلبها- عن سعادتها الدائمة بالعطاء..هذا الذي يمنحها الله فيه قرب ودفء من كل خلق الله, أسرة وجيران وأصدقاء وأناس لا تعرفهم ولا يعرفونها ولكن الله جعلها سببا في إسعادهم وتفريج كرب حالهم  ..

طنط زيزي واللهم زدها كلما هاتفتها لأطمئن عليها, وجدت جلجلة ضحكتها كما كانت منذ عشرين عاماً وأكثر .. ذلك أنها علمت الحكمة في المنع, فأعطاها الله نورا تري به سعادة العطاء من جهة أخري لم تكن تعلمها قبل أن يرضي قلبها بما منعه عنها برحمةٍ منه هو .. رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ..

 

***

( اللي إيده في المية ممكن يبقي زي اللي إيده في النار )

 فقط لو زكينا أنفسنا دوماً تجاه إنسانيتنا وفطرتنا علي قيم الخير والجمال والحب والإحساس بالآخر..

 

مازالت (خلايا المرايا ) حيّة في مصرنا الجميلة رغم كل القبح الذي يحيط بنا ..

 

مازلتِ يا مصرنا أجمل ما فيكي هو:

 (دفا أهلك وناسك )

 

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق