فى ذكرى رحيله الرابعة والخمسين..

ثلاث قصص غرام ملتهبة فى حياة العقاد

الأحد، 18 مارس 2018 03:00 ص
ثلاث قصص غرام ملتهبة فى حياة العقاد
عباس العقاد

عندما ندرك أن نقيض الحب ليس البغض، بل هو التجاهل الذى يصل إلى اللامبالاة، سنعرف أن أديب العربية الكبير الأستاذ محمود عباس العقاد كان غارقًا حتى أنفه فى الحب، الذى هو الغرام بالمرأة!

العقاد الذى نحتفل بالذكرى الرابعة والخمسين على رحيله فى ١٣ مارس من العام 1964 أخفى هشاشة قلبه وفرط شغفه تحت قناع عداوته الكاذبة للمرأة، هكذا أشاع عن نفسه وهكذا روج بعض تلاميذه لشائعة ما كان لها أن تكون حقيقة أبدًا.
 
المنطق الذى يعشقه العقاد ويقدمه على كل علم يقول إن الرجل السوى لا يكتمل إلا بحب المرأة، والمنطق ذاته يؤكد أن الشاعر والأديب والمفكر، وقد كان العقاد كل هؤلاء، لا يفلت من قصة حب تملأ قلبه، وتصبح محرابه الذى يتعبد فيه لجلال الجمال ولسطوة المشاعر.
دع عنك ما قاله العقاد عن نفسه وما قاله تلاميذه وأصحابه، واقرأ ما بين سطور العقاد فستجد امرأة كونية قد سيطرت وفرضت سطوتها على قلمه حتى لو هاجمها بقسوة رجل جاءته طعنة من الحبيبة التى كشف لها ظهره وصدره لأنها صدقها، وظن أنها فرحة العمر وقبس النار الإلهية التى تضىء ولا تحرق.
 
العدو والكاره لا يهاجم ولا يشرح ولا يفسر، الكاره والعدو يتجاهل حتى المحو، يتجاهل حتى الإلغاء.
اقرأ معى رثاء العقاد لفريدة زمانها الآنسة مى زيادة، وسترى دموعه تسقى قلبه لا خديه، ستشعر بملوحة الدمع وبحرارة بكاء الرجل العاشق.
« أين فى المحفل «مي» يا صحابْ ؟
عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين يُدعى مستجاب
أين فى المحفل «مي» يا صحاب ؟
سائلوا النخبة من رهط النديّ
أين ميَ ؟ هل علمتم أين مى ؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولى كوكباه؟ أين غاب ؟
شيم غرّ رضيات عِذاب
وحجى ينفذ بالرأى الصواب
وذكاء ألمعى كالشهاب
وجمال قدسى لا يعاب
كل هذا فى التراب. آه من هذا التراب».
بربك هل هذا شعر رجل يكره المرأة ؟
عن أنيس منصور قال: كتب العقاد يقول: «لن أموت قبل أن أعرف ألف امرأة!»، ومات ولم يعرف هذا العدد، ولكنه ألف كتبًا تحكم على نساء الأرض جميعًا.
 
وبعد أنيس جاء سامح كريم ليقول: لم يخل قلب المفكر الكبير من حب حواء أبدًا، حتى آخر لحظات حياته، إلى درجة أن أهله وجدوا بجواره على فراش الموت أبياتًا من الشعر تتغزل فى المرأة !
 
ويقول الاستاذ مصطفى أمين فى كتابه (الـ 200 فكرة): العقاد لم يتزوج طوال حياته وقد أحرق أهله وصيته بعد وفاته، التى أوصى بها مِن ميراثه لفتاة مصرية كانت قد تركتها أمها كوصية منها إلى العقاد كرد جميل على معاملتها الحسنة له فى أيام عسره إذ أن المنزل الذى كان يقطن به العقاد – فى شارع السلطان سليم رقم13( )- تعود ملكيته أصلاً إلى والدة هذه الفتاة، التى انتحرت بعد وفاته وبعد حرق وصية الفيلسوف، وقال مصطفى أمين: قال الناس بعد وفاته إنها ابنته وفى ذلك أقوال، لا نستطيع إثباتها، ولربما أنها حيلة من الفتاة.
إذًا من أين ولدت شائعة بغض العقاد للمرأة ؟
 
العقاد نفسه هو الذى خلق الشائعة، وكان شأن كل الشعراء يصدقها مرة ويكذبها مرات، وهو الأمر الذى يجعل القارئ المتعجل لا يعرف حقيقة الأمر.
 
يقول العقاد فى كتابه المطالعات: «المرأة ضعيفة حتى فى حبها، المرأة تعشق لتسليم نفسها فى نهاية الأمر، فدورها فى العشق هو دور التسليم دائمًا، أما الرجل فيعشق ليظفر بالمرأة، فدوره فى العشق هو دور الظافر دائمًا».
 
وكتبت الكاتبة غادة قدرى:  «استهل العقاد كتاب «المرأة فى القرآن»، بثلاث آيات مستعينا بها على تأييد رأيه المعارض لمساواة الرجل والمرأة، ففى الآية الأولى «ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة، والله عزيز حكيم» من سورة البقرة الآية 228، والآية الثانية «ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيئا عليما» سورة النساء آية 32.
 
والآية الثالثة «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم» سورة النساء الآية 34. وفى الآية الأخيرة يؤكد العقاد على أن تفضيل الله عز وجل، للرجل بالفطرة وليس لمجرد القوامة بإنفاق المال وهو ما يتعارض مع نص الآية، ويضم فى اختياره لتلك الآيات شرحا من اجتهاده الذاتى وفهمه الخاص».
 
ويقول العقاد فى كتابه «إن الداعين لتحرير المرأة ومتهميّ الرجل بالاستبداد لم يقدموا جديدا، فقد أثبتوا الحقيقة التى لا مناص منها، وليس عيبا فى الرجل، ولكنها الحقيقة فالرجل بطبيعته أقوى، والله قد خلق الكون لحكمة، فالقوى يغلب الضعيف، والمرأة مسخرّة لخدمة الرجل، لأنه متميز عنها وبإمكانه أن يستغلها ولا لوم عليه، وضرب على ذلك مثلا تسخير الأقوياء والأحرار للعبيد».
 
وقال العقاد أيضا فى كتابه، «إن فضل المرأة على الرجل فى الطهى والتطريز، وبكاء الموتى فقط»، كما تحدث فى كتابه عن التكوين الجسمانى الضعيف للمرأة، واصطفاء الله للرجل بالقوة البدنية، كما أنه لم يخف أن المرأة تظل تابعا للرجل، ولا يمكنها اتخاذ قرارات فى حياتها دون الرجوع إليه، لأن الرجال هم مرجعية كل عرف تم الاصطلاح عليه فى الأخلاق سواء أخلاق الذكور أو أخلاق الإناث».
وفى الفصل الأخير من الكتاب، يذكرنا بالآية «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا»، وكأنه إنذار ووعيد وتخويف واضطهاد مقصود منذ البداية.
 
إن آراء العقاد فى كتابه ذلك تحديدا، معادية للتحرر الاجتماعى والفكرى للمرأة العربية، وخلاصة ما يرى أن الرجل مخلوق مستقل والمرأة مخلوق تابع، واللافت أنه لم يستند لشرح الآيات من أية أسانيد أو شروحات غير ما فهمه هو وفسره باجتهاده ونظرته الخاصة، ما تسبب فى الهجوم عليه واتهامه بقهر المرأة وتهميشها وإنكار دورها.
 
ولكن كل هذه الكتابات التى جاد بها قلم العقاد لا تقوم دليلًا أكيدًا على بغضه للمرأة، المبغض يمحو ولا يناقش، العقاد هنا يقول كلامًا قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ ولكنه يظل مجرد كلام واجتهاد له ما له وعليه ما عليه.
 
قصة العقاد هى فى غرامياته المتعددة التى خرج منها صفر اليدين، هذا إن كان فى العشق ربح يوزن بأى ميزان كان، العقاد شأن أعلام جيله لفتته الآنسة مي.
 
مى فى حقيقتها لم تكن صيدًا أو فريسة، كانت نارًا متألقة فحام حولها فراش كثير، أحترق عن بكرة أبيه ولم يظفر منها رجل بشىء، ثم بعد مى ربطته علاقة ما بالفنانة مديحة يسرى، وسيكثر الكلام عن تلك العلاقة لكن لم يقدم أحد دليلًا أكيدًا عليها، حتى الفنانة نفسها وهى لا تزال على قيد الحياة لا تخوض فى أمر تلك العلاقة رغم مضى السنوات.
 
الحقيقة الأكيدة نجدها فى قصته مع «سارة» التى سجل تفاصيلها بل خلدها فى روايته اليتيمة «سارة».
 
وأثناء بحثى عن علاقة العقاد بسارة وقعت على مقال لأستاذ حلمى النمنم يحيط بالقصة إحاطة كاملة فرأيت أن من حق القارئ الاطلاع على المقال كاملًا.
 
يقول النمنم: «كتب الأديب والمفكر الراحل عباس محمود العقاد رواية واحدة هى «سارة»، صدرت طبعتها الأولى عام 1938 والثانية فى 1943، وتوالت طبعاتها إلى اليوم، وقد شغل النقاد أنفسهم بالبحث فى الأسباب التى دفعت العقاد إلى أن يدخل عالم الرواية، فبينهم من ذهب الى أنه ربما أراد أن يمارس جنسا أدبيا جديدا، وبعضهم قال إنه يريد أن يجرب الكتابة فى كل المجالات، ولم يكن هذا ولا ذاك دقيقا، فلو صح ذلك لوجدنا العقاد يكتب المسرحية والقصة القصيرة، لكنه لم يفعل.
 
العقاد نفسه سخر من هؤلاء جميعا فى تقديمه للطبعة الثانية لرواية «سارة» حين قال: «كتبت هذه القصة فيما زعم بعضهم لغير شىء إلا أننى أردت أن أجرب قلمى فى القصة.. لهذا السبب وحده كتبت سارة، وهو سبب قد يصح أو يكون له نصيب من الصحة لو أننى اعتقدت أن القصة ضريبة على كل كاتب، أو اعتقدت أن القصة أشرف أبواب الكتابة فى الفنون الأدبية، أو اعتقدت أننى مطالب بالكتابة فى كل موضوع تجول فيه أقلام المؤلفين».
 
 ثم يقول: ولست أعتقد شيئا من ذلك، فإن القصة عندى لا تعدو أن تكون بابا من أبواب الكتابة الأدبية ليست بأشرفها.
 
العقاد لا يستريح كثيرا للرواية ويندد باحتفاء الشيوعيين بها واعتبارهم أنها فن يعبر عن «الطبقة الدهماء» وفيما بعد فى عام 1945 سوف تنشب معركة بينه وبين نجيب محفوظ حول فن الرواية - لكنه فى مقدمة «سارة» يقول إن رواية سارة كانت فى ذهنى وكنت قد نويت أن أكتب قصة سارة لأنها تجربة نفسية لا بد أن تكتب فى يوم من الأيام وإن كنت قبل كتابتها فقد أرجأتها من حين إلى حين متخيرا الوقت ملاحظا ما تقتضيه دواعى التفصيل والإجمال.
 
عادة ينفر الروائى من أن يطابق الناقد بين روايته وبعض تجارب حياته والروائيات العربيات يعانين هذه الحالة، ووحده بين الروائيين يعترف العقاد بأن سارة تعبر عن تجربة خاصة فى حياته مر هو بها وصرح مرارا فى أحاديث صحفية حتى قبل وفاته بسنوات محدودة بأن «سارة» كانت شخصية حقيقية فى حياته ومن هذا التصريح لامه بعض القراء، لأن اسم «سارة» يرمز الى امرأة يهودية أو إسرائيلية وإن لم تكن ذلك فهى أجنبية واضطر إلى أن يدافع عن نفسه نافيا أن تكون سارة إسرائيلية أو أجنبية ومن هذا المنطلق بدأ البحث عن هوية تلك المرأة.
 
الباحث المدقق أحمد حسين الطماوى من آخر العقاديين وكان تلميذ العقاد ومن رواد صالونه والمترددين عليه لكنه لم يكن الاقرب اليه والطماوى قام بتحقيق شامل حول هذه الشخصية، وقدم لنا كتابه «سارة العقاد».
 
الطماوى يأخذ على الباحثين العرب عدم اهتمامهم بمثل هذه القضايا فهم يخجلون من أن يذكروا أو يعلنوا أن كاتبا كبيرا مر بتجربة عاطفية وهم كذلك يتجنبون ذكر اسم الفتاة أو السيدة التى عرفها الكاتب حتى لا يحدثوا مشكلة لأى طرف، بينما فى الآداب الغربية يعرف ذلك مثلا بات معروفا غادة الكاميليا لديماس الصغير هى «الفونسين بليس» وان شارلون صديقة الشاعر الألمانى جيته هى بطلة «الام فرتر» وغير ذلك فإن الرواية التى كتبها موليير لها بطل حقيقى هو «شاربى دى سانمت كروا» وكان دجالا يتظاهر بالتقوى.
 
والقاعدة لدى الطماوى هى أن الشخصيات التى تطل علينا فى الأعمال الروائية والقصصية ليست كلها من وحى الخيال بل لها أصل فى الواقع وإن حاول الكاتب أن يخفى بعض معالمها وبهذا المعنى انطلق إلى سارة يبحث عنها.
 
سارة هى الكاتبة والمترجمة «أليس داغر» ولها اسم آخر هو «أليس عبده هاشم» وهى ابنة الرائدة والكاتبة المعروفة لبيبة هاشم مؤسسة مجلة فتاة الشرق، وتزوجت أليس من صحفى سورى كان مقيما فى مصر ومؤمنا بالعروبة هو عبده هاشم وحملت اسمه، وكان طاهر الجبلاوى قد نشر كتابا عن المرأة فى حياة العقاد أشار فيه الى أن سارة ابنة رائدة نسائية فى الصحافة وكاتبة طليعية، وأهمية الجبلاوى انه صديق العقاد والذى ورد اسمه فى الرواية «أمين» والذى كلفه البطل بمراقبة سارة لشكه فى سلوكها ثم كتب بعد ذلك عبدالرحمن صدقى فى مجلة الهلال عام 72 أن سارة كانت كاتبة ومترجمة وكانت توقع مقالاتها باسم «أليس داغر» وصدقى كان صديق العقاد الصدوق ومحل ثقته.
 
كان العقاد قد تعرف بأليس عام 1924 حين ذهب إلى أحد البنسيونات فى شارع الازهر بمصر الجديدة ليزور صديقه د. صبرى السربونى حيث كان يقيم ولم يجده والتقى صاحبة البنسيون وكانت سيدة إيطالية متحضرة وكانت أليس هناك معها فدار حوار بينهما واتفقا على اللقاء فى اليوم التالى فى إحدى الحدائق بمصر الجديدة ثم زارته فى بيته اليوم الثالث وهكذا كانت العلاقة حتى وهن الحب وضعف وأخذه الشك فى سلوكها وكان ما كان مما أورده فى الرواية لكن الصداقة بقيت بينهما.
 
كانت أليس تجيد عدة لغات من بينها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية وكانت تترجم عنها.
 
وتتبع الطماوى حياة أليس داغر قبل أن تعرف العقاد ويرصد تفاصيل العلاقة بينهما حيث كانت قد التقته إثر انفصالها عن زوجها وشكت للعقاد من هذا الزوج الذى كان يكبرها كثيرا ولم يكن مناسبا لها فقد تزوجته لأن أسرتها أرادت لها أن تتزوج على النحو المعروف فى الأسر العربية التى تتخوف على بناتها من شبح العنوسة.
 
الطماوى ذهب إلى مجلة «فتاة الشرق» التى كانت تنشر بها أليس داغر وجمع مقالاتها المكتوبة او المترجمة ونشرها فى نهاية بحثه ليقدم للقارىء إنتاج كاتبة لم يهتم بها الدارسون ولا النقاد ولا عرفوا أنها هى «سارة» العقاد.
 
الطريف أن العقاد غضب من تعقيبات النقاد وتعاملهم مع الرواية حين راحوا يخمنون أسبابا لكتابة الرواية واعتبر ذلك من باب «حب الانتقام والتشويه» الذى هو «غريزة فى بعض الناس» وللرد عليهم قال «من الحق أن يلقموا حجرا حينما كانت الحجارة بهذا اليسر وبهذا الإفحام»، أما الحجر الذى قرر أن يلقمه النقاد فهو انه راح يؤكد أن سارة شخصية حقيقية وأدلى ببعض صفاتها التى قادت الطماوى إلى من تكون هى على وجه التحديد.
 
ترى هل يغرى هذا البحث وتلك الدراسة بعض الدارسين بالتفتيش فى بعض اعمال كبار الأدباء العرب وإعادة البحث حولها، وربما أدى ذلك إلى اكتشافات مهمة وجديدة للحياة الثقافية؟

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق