الرجل الذي مات في بيته

الجمعة، 27 أبريل 2018 01:36 م
الرجل الذي مات في بيته
محمود الغول

غرفة بها نافذة مفتوحة على الشارع الكبير، تكاد لا تسع سريره المصنوع من أشلاء قطع أثاث هالك، تخلى عنها أصحابها في أقرب مكب، ومع ذلك كان للغرفة أن تسع حلمه الوحيد.
بعد ساعة واحدة، سيتم عامه الثالث والستين، وهو الآن يرقد في سريره، مرتديا بيجامة ناعمة، وعطره المفضل نافذ إلى أنوف المارة، بينما ابتسامة واسعة معلقة بين شفتيه..
فقط مستلق على ظهره وعيناه مثبتتان على ساعة الحائط، يراقب العقارب التي تواصل حركتها بانتظام كسجين لا يبالي وهم يقتادونه إلى المقصلة..
لم يكن يفعل شيئًا، حتى تلك الشاشة السحرية، وذلك الصوت الذي يهدر منها كالشلال، لم يكن ليحظى بالتفاته من عينه.
في هذه الليلة بالذات أرد أن يملأ صدره بأكبر قدر من الضوضاء، لهذا ترك النافذة مشرعة على الشارع الكبير، لكنه وضع جدارا من الورق ليحول بينه وبين الهواء البارد المتسلل عبر النافذة.
ذلك الهواء المنعش قد يكون مكافأة لرئتين مكبلتين بنفايات العالم، ومع ذلك هو لا يريده، لقد نال ما يكفيه من الهواء البارد لستة عقود على ما يذكر..
العقارب تواصل الزحف، ومازال هو يلاحقها بابتسامته المتجمدة على أطراف شفتيه..
لكن، ماذا يفعل عقل رجل مثله في هذه الدقائق؟ 
عقله؟!
في تلك اللحظات لم يكن داخل تجويف جمجمته الضئيلة، سوى آلة عرض قديمة يدور فيها فيلم يتمدد كجثة بطول اللحظة التي ولد فيها إلى اللحظة التي يعيشها..
آلة لا تعرض سوى أماكن مختلفة: 
1- ¬¬حجرة ضيقة بها سرير معدني بأعمدة صدئة، وأكوام من اللحم هنا وهناك.
2- جسر يتمدد تحته أطفال يضاجعون القطط.
3- رصيف ينحني لكل حذاء عابر.
4- جدار يميل على جثة مازالت تنبض.
5- سيارة قديمة بلا أبواب في مكب قمامة ترتعد من البرد.
6- عشة من الصفيح المنبعج إلى جوار شاطئ بلا ماء.
7- غرفة مسقوفة بالخشب تعلو بناية بلا أساس.
في هذه الأماكن كلها لم يكن يميز سوى وجهه هو.. وجه واحد جمع ملامحه من وجوه ألف رجل وامرأة لم يصادف أحدهم يومًا.
هذا الوجه الذي ترونه، ليس سوى وجها مصنوعا، حاكه هو مثل ثوب مرقع من ألف ثوب وثوب، ومع ذلك قد ترونه وجهًا أصيلًا!
 ها قد حانت اللحظة، ها هي العقارب تتعانق عند منتصف الليل كالتئام الجرح..
لحظتها اتسعت الابتسامة على وجهه، وهو يمرر كفه على سريره كضرير يتفحص ملامح ابنته، قبل أن يتحسس جيبه المنتفخ بورقة خضراء خط فيها اسمه في خانة المشتري.
الآن:
هدأ مصنع الضجيج داخله..
هبط صدره ولم يرتفع مرة أخرى..
أغلق عينيه ورحل في سلام.
رحل دون أن يدري من سيبيت محله في بيته ويتمدد على سريره متدثرًا في البيجامة الناعمة، لكنه لم يهتم.. فليس للرجل أن يهتم مادام سيموت في بيت هو بيته.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة